مع دخول العام 2025، تشهد سوريا بداية عهد جديد بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، حيث أصبحت الحاجة ملحّة لاستغلال كافة الموارد المتاحة لدعم جهود إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد.
وفي هذا السياق، يمثل النفط أحد أهم ركائز الاقتصاد السوري وأبرز روافده المستقبلية.
لكن مع وفرة المعلومات المتداولة حول الإمكانيات البترولية لسوريا في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، تظهر الحاجة الماسة إلى فصل الحقائق عن التوقعات والتحليلات التي غالباً ما تتسم بالتناقض، حيث تتأرجح بين سرديات غارقة في التشاؤم وأخرى مفرطة في التفاؤل.
انطلاقاً من ذلك، يسعى هذا المقال لتقديم صورة دقيقة وشاملة عن الإمكانات البترولية في سوريا تاريخياً ووصولاً إلى واقعها الحالي؛ وتقديم نظرة مستقبلية واقعية مدعومة بتحليل تقني وفني يستند إلى خبرتي الميدانية والأكاديمية المتواضعة طوال 15 عاماً في مجال الاستكشاف والإنتاج ضمن القطاع النفطي السوري، خلال عملي لدى الشركات الوطنية أو الأجنبية.
- في عام 1925، حصلت شركة البترول التركية (البريطانية) على امتياز التنقيب عن النفط في العراق عن طريق تحالف شركات أميركية وبريطانية وفرنسية لتتوج في العام 1926 باكتشاف النفط تجارياً في تركيب بابا كركر شمال مدينة كركوك حيث تدفق النفط من بئر "بابا كركر-1"، بأكثر من 95 ألف برميل من النفط يومياً، ما شكّل نقطة تحول في صناعة النفط بالمنطقة.
- بدافع هذه النتائج الواعدة، وسعت شركة نفط العراق أنشطتها، فحصلت عام 1934 على امتياز للتنقيب في سوريا.
- بدأت الشركة عملياتها الاستكشافية في عام 1936 واستمرت حتى عام 1947، إذ حفرت 11 بئراً استكشافياً في مختلف الأحواض الرئيسية دون تحقيق نتائج إيجابية، ما أدى إلى إنهاء الامتياز في عام 1951.
- في عام 1955، منحت الحكومة السورية امتياز التنقيب لشركة منهل الأميركية، التي باشرت التنقيب في منطقة "كراتشوك" (قره جوخ) شمال شرق سوريا.
- أسفر العمل عن نتائج مخيبة في أول بئر (كراتشوك-1)، لكن البئر الثاني (كراتشوك-2) أثبت وجود النفط تجارياً لأول مرة في سوريا. نتيجة لهذا الاكتشاف، حوّلت الحكومة السورية امتياز التنقيب لشركة "كونكورديا" الألمانية في عام 1956، التي اكتشفت بدورها عام 1959 حقل السويدية، أهم وأكبر حقول النفط في سوريا.
- يُعد "حقل السويدية"، المعروف بـ"درة حقول النفط السورية"، أحد الحقول الكربوناتية العملاقة عالمياً، حيث يحتوي على احتياطي جيولوجي يزيد عن 8 مليارات برميل من النفط.
- يمتد الحقل على مساحة 186 كيلومتراً مربعاً، بأبعاد 25×12 كيلومتراً وسماكة طبقة منتجة تصل إلى 340 متراً. يتميز النفط المنتج بكونه متوسط اللزوجة، بدرجة 24 وفقاً لمقياس الجودة الأميركية.
- كشفت تركيا عن رغبتها في المساهمة بزيادة إنتاج النفط والغاز الطبيعي في سوريا، وهي خطوة جديدة ضمن جهود أنقرة لتعميق مشاركتها بإعادة إعمار البلد الذي دمرته الحرب.
- في عام 1964، أصدرت الحكومة السورية المرسوم رقم 133 القاضي بحصر استثمار الثروات الباطنية بالدولة فقط. تزامن هذا القرار مع توقيع اتفاقية للتعاون الاقتصادي والفني مع الاتحاد السوفيتي، والتي أثمرت لاحقاً عن اكتشاف حقول نفطية مهمة في تراكيب الرميلان، وحمزة، وعليان في شمال شرق سوريا.
- في عام 1974، تم تأسيس "الشركة السورية للنفط" لتكون الجهة المسؤولة عن عمليات الاستكشاف، والحفر، والإنتاج. تميزت هذه المرحلة بتركيز الجهود على زيادة الإنتاج من خلال تكثيف عمليات الحفر في الحقول المنتجة، وإعادة حقن المياه لزيادة الضغط الطبقي الذي انخفض نتيجة الإنتاج المفرط. ومع ذلك، أدى هذا النهج إلى أضرار مبكرة في الطبقات الخازنة، مثلما حدث في "حقل السويدية".
- "حقل السويدية"، الذي بدأ الإنتاج فيه فعلياً عام 1968 بمعدل 8.3 مليون برميل سنوياً، شهد ارتفاعاً ملحوظاً في الإنتاج حتى بلغ ذروته عام 1975 بإنتاج 50 مليون برميل سنوياً، مع تشغيل 22 بئراً في البداية. إلا أن الإنتاج أخذ بالانخفاض التدريجي لاحقاً ليصل إلى 23 مليون برميل سنوياً بحلول عام 2001، رغم زيادة عدد الآبار العاملة إلى 685 بئراً، منها 114 بئراً أفقياً و571 بئراً عمودياً.
- نتجية للانخفاض الحاد في إنتاج النفط السوري بداية الثمانينات، لجأت الحكومة السورية إلى توقيع عقود للتنقيب وتقاسم الإنتاج مع عدد من الشركات الأجنبية الكبرى مثل "توتال" و"إلف" و"شل" و"ماراتون".
- قامت الشركات المذكورة بتنفيذ مسوحات مغناطيسية وزلزالية، وحفرت أكثر من 200 بئر استكشافي، أثمرت عن اكتشافات تجارية مهمة للنفط والغاز في عدة تراكيب.
- أهم الاكتشافات خلال تلك الفترة كان في منطقة دير الزور، حيث نجح تحالف يضم شركات "شل" و"إلف" و"توتال" في اكتشاف احتياطيات ضخمة من النفط. ففي عام 1984 تم اكتشاف "حقل التيم"، تلاه "حقل العمر" عام 1987، الذي يعد من أهم الحقول النفطية في سوريا.
- يقع حقل العمر جنوب شرق مدينة دير الزور، ويحتوي على احتياطي يُقدّر بـ760 مليون برميل من النفط الخام الخفيف. بدأ الحقل الإنتاج بمعدل 90 ألف برميل يومياً، لكن الإنتاج انخفض إلى 16 ألف برميل يومياً بحلول عام 1992 نتيجة انخفاض الضغط الطبقي. لاحقاً، أدى تطبيق تقنيات حقن المياه إلى زيادة الإنتاج ليصل إلى 65 ألف برميل يومياً بحلول عام 2001، بينما بلغ الإنتاج التراكمي للحقل 1.5 مليار برميل في عام 2006.
كما شهدت المنطقة اكتشافات لعدد كبير من الحقول مثل "الورد"، "التنك"، "الأحمر"، "عكاش"، و"الجفرة" بين مدينتي البوكمال ودير الزور، مما جعل "منخفض الفرات" ثاني أهم منطقة نفطية في سوريا بعد حقول الحسكة. بدورها، شهدت الحسكة اكتشافات جديدة خلال هذه الفترة، خصوصاً في التراكيب الواقعة على الحدود التركية مثل "عودة"، "سعيد"، و"سازبه"، التي أضافت إلى ثروة البلاد من النفط الثقيل.
- في منطقة تدمر وسط سوريا، تمكنت شركة "ماراثون" من اكتشاف النفط والغاز في عدة تراكيب مهمة مثل "الأرك"، "الشاعر"، "أبو رباح"، "قمقم"، "الشريفة". وساهمت هذه الاكتشافات في تحقيق ذروة الإنتاج النفطي السوري، حيث بلغ الإنتاج 560 ألف برميل يومياً عام 1995، وهو أعلى مستوى في تاريخ البلاد.
- لكن الإنتاج بدأ في التراجع تدريجياً ليصل إلى 385 ألف برميل يومياً بحلول عام 2002، مما دفع الحكومة السورية إلى طرح مناطق جديدة للاستثمار عبر مزايدات عالمية.
- ذلك، تم إصدار قوانين لتنظيم عمل الشركات الأجنبية تحت إطار "شركات عقود الخدمة"، والذي ساعد على اكتشافات بارزة هي:
1- شركة "غالف ساندز" البريطانية: حصلت على عقد للتنقيب شمال شرق سوريا. اكتشفت في عام 2008 حقل "شرق خربت"، ثم حقل "اليوسفية" عام 2010، باحتياطي إجمالي قدره 250 مليون برميل. بلغ الإنتاج من هذه الحقول 25 ألف برميل يومياً بحلول عام 2012.
2- شركة "تات نفت" الروسية: اكتشفت النفط عام 2010 في حقل "الكشمة" بريف مدينة البوكمال، الذي قٌدّرت احتياطياته بـ40 مليون برميل.
3- شركة "إينا" الكرواتية: حققت في عام 2005 الاكتشاف الأهم في منطقة تدمر بوسط سوريا، حيث تمكنت من اكتشافات تجارية في ست حقول هي "جهار"، "المهر"، جزل"، "بالميرا"، "مستديرة"، و"مزرور". قدرت احتياطيات الغاز المكتشفة بـ280 مليار متر مكعب، مع طاقة إنتاجية بلغت 2.7 مليون متر مكعب يومياً من حقل "الشاعر" شرق حمص.
- في العام 2005 فرضت الإدارة الأميركية حزمة من العقوبات الاقتصادية على سوريا لتبدأ الشركات الاجنبية الكبرى تنسحب تدريجياً من سوريا ببيع أصولها لشركات صينية أو هندية وصولاً للعام 2011 حيث فرضت عقوبات دولية مباشرة على قطاع النفط السوري لتعلن أغلب الشركات القوة القاهرة وتوقف عملياتها وتغادر سوريا.
- مع بداية عام 2012، كانت معظم المدن السورية قد ثارت في وجه نظام الأسد، وشهدت المناطق النفطية نزاعات حادة نتيجة تغير السيطرة على الأرض وتنازع القوى المختلفة على عائدات النفط.
- في نيسان 2012، وقع النظام السوري عقداً مع "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" لتولي "حماية وتشغيل المنشآت النفطية" في شمال شرق سوريا. إلا أن ضعف الخبرة الإدارية والتشغيلية، إلى جانب الانفلات الأمني، تسبب في إغلاق غالبية الآبار المنتجة، ما أدى إلى هبوط الإنتاج إلى أدنى مستوى في تاريخه، حيث بلغ 1500 برميل يومياً في عام 2014.
- مع استقرار الأوضاع نسبياً تحت سيطرة القوات الكردية (الإدارة الذاتية) ، ارتفع الإنتاج تدريجياً ليصل في أواخر عام 2020 إلى نحو 87 ألف برميل يومياً، بالإضافة إلى إنتاج نصف مليون متر مكعب من الغاز يومياً يتم توريده إلى محطة "السويدية" لمعالجة الغاز المرافق.
- في منطقة دير الزور كانت الأمور أكثر تعقيداً نتيجة لتغير خرائط مناطق النفوذ وتبدل القوى المسيطرة عدة مرات حيث وقعت حقول "العمر"، و"التيم"، و"التنك"، و"الورد"، و"الجفرة"، ومعمل غاز "كونيكو" تحت سيطرت فصائل المعارضة المحلية عام 2012 ثم تنظيم "داعش" الإرهابي عام 2014 وبعدها الوحدات الكردية "قسد " عام 2017. هذا التنازع ادى الى تدمير معظم البنية التحتية في هذه الحقول.
- كانت منطقة تدمر وريف حمص مسرحاً للكر والفر بين قوات النظام و"داعش" الذي سيطر في عام 2014 على حقول "جبل الشاعر" أهم حقول الغاز في المنطقة؛ وامتدت سيطرة التنظيم على حقول "الأراك" و"الهيل" عام 2015 حيث تعرضت معظم الآبار الى التخريب والحرق.
- أسفرت هذه النزاعات عن تدمير واسع للبنية التحتية النفطية والغازية في البلاد، مما أثر بشكل كبير على إنتاج الطاقة وساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية. وعلى الرغم من الجهود لاستعادة الإنتاج في بعض المناطق، فإن قطاع النفط والغاز في سوريا يواجه تحديات هائلة لإعادة البناء وتحقيق الاستقرار. (الشرق للأخبار)