لم يكن ما جرى في الأيام الأخيرة مجرّد تباين في مقاربة ملف حساس، بل بدا كمقدمة لمرحلة جديدة من التصعيد السياسي الذي تقوده "القوات اللبنانية" بوجه أركان السلطة مجتمعين. فبينما تمرّ الدولة في اختبار مزدوج داخلي وخارجي، تحوّلت "معراب" إلى رأس حربة في مواجهة مفتوحة، مستخدمة ما وصفته مصادر مطّلعة بـ"غياب السيادة" كمظلّة لتسويق تموضع جديد، يلتقي شكلاً ومضموناً مع رهانات خارجية بدأت تتعامل مع بعض القوى المسيحية والسنّية كبدائل جاهزة للمرحلة المقبلة.
ووفق المصادر فإنّ وراء اللغة الدستورية التي اعتمدتها "القوات" لتبرير اعتراضها على مضمون الردّ اللبناني بشأن ملف السلاح، تقف مقاربة سياسية أشدّ وضوحاً. فالهجوم اتجه مباشرة للطعن بشرعية المسار المؤسساتي نفسه باعتباره مُصادراً. هذا الخطاب التصعيدي لم يُبنَ في الهواء، إذ ترى المصادر أنه يستند إلى دعم سياسي ودبلوماسي متنامٍ، وتحديداً من
واشنطن، التي باتت، وفق المصادر نفسها، تعتبر "القوات
اللبنانية" ومعها بعض الحلفاء السنّة في موقع متقدّم من حيث الجهوزية لتبنّي أولوياتها، في حال فشلت التسويات مع القوى التقليدية.
هذا التحوّل في التموضع لا يقتصر على الجانب الخطابي، فالأداء السياسي لمعراب خلال اليومين الماضيين اتخذ طابعاً هجومياً متدرّجاً بدأ برفض الردّ الرسمي، مروراً باتهام السلطة بتجاوز
الدستور، وصولاً إلى تسريبات تحدثت عن التلويح بالخروج من الحكومة. وهو تصعيد يبدو مدروساً، هدفه الأساسي ليس فقط الاعتراض على الورقة المقدّمة لواشنطن، بل تقويض الإطار السياسي الذي صيغت فيه.
وفي خلفية هذا التصعيد، ثمّة ما يتجاوز مسألة الرد على الورقة الأميركية. إذ تفيد معطيات متقاطعة بأن "القوات اللبنانية" بدأت تسعى بشكل غير معلن إلى تأجيل الانتخابات النيابية المقبلة، مستخدمة ذريعة الحاجة إلى توفير ظروف مؤاتية لحكومة الرئيس سلام لأحداث بعض التعديلات على القانون الانتخابي، في حين أن الهدف الأعمق يتّصل مباشرةً بالمشهد المسيحي نفسه. فمعراب، التي تتابع عن كثب التحولات داخل بيئتها، تدرك أن وصول جوزاف عون إلى رئاسة الجمهورية أحدث خرقاً في التوازنات التقليدية، وفتح الباب أمام إعادة توزيع الحضور المسيحي في السلطة، على حساب القوى التي كانت تتصدّر التمثيل السياسي طوال المرحلة السابقة.
فالرئيس الجديد، الذي يتمتع بغطاء داخلي عابر للانقسامات وبقبول خارجي واسع، بدأ يستقطب في فترة قصيرة شريحة لا يستهان بها من الرأي العام المسيحي، خصوصاً تلك التي كانت محسوبة في السابق ضمن هوامش نفوذ "القوات". من هنا، يبدو تأجيل الانتخابات بالنسبة لمعراب أقرب إلى محاولة لاحتواء هذا التبدّل وإعادة ترتيب الاصطفافات قبل أن تترجمه صناديق الاقتراع إلى واقع جديد يصعب تعديله لاحقاً. وتشير أوساط مطّلعة إلى أن جعجع فتح قنوات مع دبلوماسيين غربيين لطرح فكرة التأجيل كضرورة تفرضها الظروف الراهنة، ساعياً لإقناعهم بأنها مدخل إلزامي لإعادة ضبط التوازن داخل الشارع المسيحي قبل أي استحقاق مفصلي. وبالتالي بدا واضحاً أن فكرة التأجيل مرتبطة بحسابات الزعامة المسيحية بشكل مباشر.
من هذا المنطلق، لا تبدو "القوات" معنية بالدخول في حوار داخلي فعلي حول صياغة موقف سيادي جامع، بل تسير في اتجاه فرض اشتباك سياسي مفتوح يتخطى مضمون الردّ نفسه، ليتحوّل إلى معركة قائمة على فرض خطاب موازٍ يزاحم الموقف الرسمي ويضعف موقعه أمام الداخل والخارج. وفي هذا السياق، يصبح واضحاً، وفق المصادر، أن استهداف معراب للرئيس جوزاف عون لا يتعلق حصراً بطريقة إدارته للملف، بل بإصرارها على التمهيد لإعادة تشكيل مشهد السلطة وفق ميزان جديد.
في المقابل، تواصل
بعبدا اعتماد لهجة التهدئة، مقدّمةً الردّ الرسمي كصيغة توازن بين الضغوط الدولية والحساسيات الداخلية، وهو توازن لا ترى فيه "القوات" سوى تراجع عن المبادئ، وتفريطاً بما تعتبره "الخط الأحمر السيادي". لكن المفارقة أن هذا الخطاب المتشدد لا يُترجم حتى الساعة برؤية عملية أو بديل واضح، بل يتحوّل تدريجياً إلى خطاب تعبئة، قد لا يبقى محصوراً في نطاق التصريحات والبيانات، بل يذهب نحو تحركات أوسع تُحضّر في الكواليس، وتستهدف تفكيك صورة السلطة الحالية أمام الداخل والخارج على حد سواء.
وسط هذا المناخ، تظهر علامات استفهام مشروعة حول طبيعة الدور الذي تلعبه "القوات" في هذه المرحلة، وحدود التقاطع بين خطابها المتشدّد والدفع الأميركي المتصاعد نحو تغيير في التوازنات. فبينما تبدو واشنطن غير مطمئنة للمسار الراهن، تعمل على إعادة تموضعها داخلياً معوّلة على قوى ترى فيها التزاماً أكبر بشروطها في ملف السلاح. وضمن هذا الإطار، يتقدّم كل من "القوات" وبعض الحلفاء من السنّة و"التغييريين" كممرّ إلزامي للمرحلة المقبلة، ليس بحكم شعبيتهم أو تمثيلهم، بل بحكم قدرتهم على إحداث إرباك داخلي، وكسر التوازن التقليدي القائم.
في العمق، ترى المصادر أنّ "القوات اللبنانية" لا تتحرّك بدافع دستوري صرف ولا بدافع الحرص على المؤسسات، بل من منطلق حسابات تتجاوز الساحة المحلية. فالحزب الذي اعتبر نفسه خلال السنوات الماضية محاصراً، يسعى اليوم لاستعادة دوره كمحور معارض أول، في لحظة يرى فيها أن هوامش الحركة السياسية تتّسع مجدداً أمام القوى التي ترفع شعار المواجهة مع "
حزب الله". وبالتالي فإنّ التصعيد ليس هدفاً بحدّ ذاته، بل وسيلة لفرض خريطة تموضع جديدة، تُعيد رسم التوازنات الداخلية وتُرضي المتطلبات الأميركية في آن معاً.
من هذا المنظار، تصبح معركة "القوات" مع السلطة الحالية فرصة مزدوجة: أولاً، لاستغلال لحظة الانقسام لإعادة تثبيت حضورها كقوة مقرّرة في المشهد الداخلي خارج منظومة التفاهمات القائمة. وثانياً، للتموضع في موقع الشريك المحلي المفضّل لدى واشنطن في أي تسوية أو ضغط مرتقب. فالحزب الذي طالما قدّم نفسه كصوت سيادي معارض، يدرك أن اللحظة مؤاتية ليترجم هذا الخطاب إلى موقع سياسي متقدّم، حتى ولو جاء ذلك على حساب الاستقرار الداخلي، أو عبر تحالفات ظرفية لا تُبنى على مشروع وطني واضح، بقدر ما تُبنى على تقاطع مصلحي مع الخارج.
بهذا المعنى، فإن ما يجري ليس مجرد اعتراض، بل محاولة مدروسة لتصدّر مشهد المرحلة المقبلة، بما تقتضيه من مواجهات مفتوحة، وتحولات في ميزان القوى.