إذا طالعنا أيّ جريدة أو تصفّحنا المواقع الإخباريّة المحلّيّة، نقع على عشرات الأخبار الّتي تتناول شأن البلد، والقرارات المهمّة الّتي تُتّخذ بشأنه، ونرى أنّه يسير وفق حوكمة سليمة لا غبار عليها. لكن، إذا نشرنا شريط الأخبار الأسبوعيّ، وثمّ الشهريّ، فالسنويّ، سنجد أنّ ثمّة قرارات متضاربة، وعشوائيّة، واستنسابيّة لصالح جهة ما، أو تكتّل معيّن.
يزداد الوضع تشوّشًا عندما تتعلّق الأمور بمعيشة المواطن، وترابطها الوثيق مع الأزمة الاقتصاديّة والماليّة في لبنان. فهو لا يعرف ما الخطط، ولا يستطيع أن يتتبّع منطق الأمور، فالأسعار، والخدمات، والبنى التحتيّة، وكلّ مقوّمات العيش الكريم، تعوم في غمامة من الاحتمالات السلبيّة، ليجد نفسه خاسرًا على الصعُد كافّة.
يُصيب بعض المراقبين في تشخيصهم حالة الفوضى والعبثيّة الّتي نختبرها، فهي ترمز إلى الفشل الإداريّ المتعاقب منذ سنين، والحوكمة غير السليمة. فلم تعرف المجموعات الإداريّة أن تطوّر من آليّات الحوكمة، فكثيرًا من الأمور الّتي فرضتها حقبة نهاية الحرب اللبنانيّة في التسعينيّات، كتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانيّة في مقابل الدولار الأميركيّ، لم تعُد نافعة لمراحل لاحقة. فلا نرى خُططًا قصيرة ومتوسّطة الأمد، بل مجرّد أعراف وشعارات تدوم إلى الأبد، حتّى وإن أصبحت مفاعيلها سلبيّة على البلد.
من ناحية أُخرى، يُلام المواطن اللبنانيّ في تماهيه الأعمى مع الأحزاب وموروثها السياسيّ، ويفهم "الحكم" من منظور ضيّق، وسلبيّ... فالولاء للزعيم فوق المصلحة العامّة، والحكم هو ميزة لأصحاب النفوذ والسلطة، فهم قادرون على فرض مجموعة من القواعد والقوانين، ويضمنون "سير" البلد عن طريق ضماناتهم الشخصيّة، وضبطهم لصمّامات الأمان كما يدّعون. وتتفاقم هذه الظاهرة مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابيّة على أنواعها.
ما يحتاجه اللبنانيّ، هو السعي نحو الحوكمة الرشيدة المرتبطة بالديمقراطيّة والحقوق المدنيّة، والشفافيّة، وسيادة القانون، والخدمات العامة الفعّالة. وتعمل آليّاتها عن طريق ثلاثة محاور أساسيّة، وهي القواعد والقيود الداخليّة بما فيها على سبيل المثال استقلال القضاء. كذلك الشراكة في الإدارة والتكامل بين القطاعين العامّ والخاصّ. ويُضاف إليها المنافسة، بطريقة تراعي الصالح العامّ بما تقدّمه كل الأطراف من بنى تحتيّة أفضل، أو الخدمات الاجتماعيّة الأرقى.
لا تكفي النيّة الصادقة أو الرغبة العميقة للوصول إلى الحوكمة السليمة، فالجهات المسؤولة، بأطيافها كافّة، عليها البحث عن كيفيّة تضمين النقاشات الهادفة، وجمع المعلومات والدراسات والبيانات من كل الهيئات الطبيّة والتعليميّة والتجاريّة، إلخ... بُغية التنسيق بين ما هو علميّ، وعمليّ، وسياسيّ من أجل المصلحة العامّة.
إذًا، ليس الأمر حتميًّا وقدريًّا كما يعكسه الواقع الحالي في لبنان. فهناك كثير من المبادرات الّتي تسعى لتمتين الحوكمة الرشيدة، وتخطّي الموروث السياسيّ والتاريخيّ عند شعبٍ يحارب في سبيل التخلّص من تبعات قرارات وحروب، وأزمات محلّيّة، وإقليميّة، ودوليّة.
على اللبنانيّ أن يقرّر تخطّي عقدة "الحكم" والسير نحو تحقيق "الحوكمة" الّتي تتكافل فيها كل الأطراف لإدارة البلد بحكمة، بعيدًا عن التفرّد بالقرارات، أو التملّص من المسؤوليّة. فبدل تقاذف الاتّهامات والتشفّي بأخطاء الآخرين، علينا أن نبحث معًا عن الحلول الممكنة لمشاكلنا المستمرّة، وخصوصًا الاقتصاديّة والماليّة منها، ومعالجة كل مصادر الهدر، وسدّ منافذ التخلّف، وصدّ مظاهر الاحتقان الطائفيّ كلّها، وذلك، بالاهتمام بمعايير الاستدامة، والأثر البيئيّ، والسلامة العامّة، التي ترسِّخ أُسس الحوكمة الرشيدة. فنبتعد عن القرارات العشوائيّة والمتضاربة الّتي لا تسير بلبنان إلّا للوراء، ولا تزيد إلّا من توتّر أبنائه... ونحن بأمسّ الحاجة إلى أن نعمل سويًّا وبرشد.