يعيش الاقتصاد اللبنانيّ تخبّطًا داخليًّا عنيفًا فكثيرون ممَن يرغبون في اسعافه، يزيدون من معاناته، ويدفعونه نحو الموت، حتّى قبل أن يدخل العمليّة الجراحيّة الموجعة الّتي تتجسّد في امتثاله لخطط البنك الدوليّ، والّتي ينتظرها أو يؤجّلها خوفًا أو هربًا.
فمن ناحية، يُطالب اللبنانيّ بحقّه في أن يعيش ضمن أنظمة تضبطها المعايير والمقاييس العادلة، خصوصًا عندما تقترب الأمور من "الجيبة"، فأين اللجان من ضبط الأسعار؟ وأين محُاسبة الفاسدين؟ وأين الرأفة بالمواطن الفقير الّذي لم يعُد قادرًا على تحمّل كلفة سلّته الغذائيّة الّتي فاقت مدخوله الشهريّ بمرّات؟
من ناحية أُخرى، يُصطدم اللبنانيّ نفسه لحقيقة أنّ أيّ حركة قد تنعكس سلبًا على مصلحته. فالاعتصامات باتت حجّة بعض اللجان المسؤولة عن ضبط السوق لتبرّر عدم مقدرتها على القيام بمهامها. وتصحيح الأجور كمَن يُصاب بنيرانٍ صديقة، فما كان بارقة أمل في بداية العام المنصرم، بات تحصيلا حاصلا، لأنّ الموازنة تأخّرت كثيرًا، وأرقامها لا تتطابق مع قيمة الليرة الّتي تنخفض أكثر فأكثر.
في شبه الغياب عن الوعي، لم نشهد حتّى الآن أيّ لوائح رسميّة للمواد الغذائيّة، ولا حتّى السلع المستوردة، فنرى الاقتصاد الجريح يهذي: ما هي المواد الأوّليّة المعفاة من الضرائب الجمركيّة؟ وفي عصر التكنولوجيا، كيف لا تُعتبر أجهزة التواصل من الأولويّات؟ وفي دولة متقطّعة الأوصال، أليست السيّارة أمرًا أساسيًّا...؟ وهل حقّ المواطن في التنقّل "محرَّم" ولو على حساب عجزه المادّيّ...؟
نجد في كلّ حادثة من يعلو صراخه بطريقة هستيريّة، وقد يلوم الكّل على المصيبة... أمثال هؤلاء يتّهمون التجّار يمينًا ويسارًا، غافلين أنّ التجارة تقوم على المنافسة لا على رفع الأسعار. فالمواطن-التاجر يقوم برهانات أكبر، ويحدّد هامش الخسائر في بلد تتقلّب فيه القوانين، وأسعار الصرف، وقد لا يكون المستفيد الدائم من ارتفاع أسعار الدولار الأميركيّ. من دون أن ننكر وجود من يخزِّن سلعه إلى حين ارتفاع رسوم الدولار الجمركيّ في الموازنة القادمة، ومن يحتسب الدولار الجمركيّ على السلع بحسب سعر صرف السوق السوداء.
ليست الضريبة الجمركيّة داء بحدّ ذاته، فهي تدخّلٌ وقائيّ يأتي ضمن معاهدات اقتصاديّة دوليّة تربط الدول ببعضها. لكن، عادةً ما تميل الدول إلى الإلغاء التدريجيّ، خصوصًا عندما يتمّ التوافق على دعم قطاع معيّن عند الطرفين. وهنا، يجب أن نعلم أنّ كثيرًا من السلع المستوردة تشملها إعفاءات ضريبيّة، ولا يجب أن تتأثّر بتقلّبات الدولار والصرف والضرائب.
وبما أنّ حالة الترف أصبحت من الماضي لدى معظم اللبنانيّين، فإنّ زيادة الضرائب الجمركيّة، وارتفاع أسعار السلَع، جعل كثيرين يميلون إلى المواد المحلّيّة، والأقل سعرًا، مما سيُخفِّض إيرادات الضرائب الجمركيّة المتوقّعة في المستقبل. فعادةً ما تؤدّي زيادة الضرائب في الاقتصادات المريضة إلى انخفاض الاستهلاك، والركود التضخّميّ. وبدلًا من ذلك، تلجأ الدول، حتّى السليمة اقتصاديًّا، إلى فرض الضرائب التصاعديّة على أصحاب رؤوس الأموال والعقارات، كما هي خطّة الكثير من الدول من بعد الركود الّذي سبّبته جائحة كوفيد-١٩، والتضخّم الحاصل بسببها.
في الجانب "المُسعِف"، يبرّر كثيرون ازدياد سعر الدولار الجمركيّ لضمان زيادة الواردات العامّة إلى الخزينة، لكنّها لا ترقى في لبنان إلى حدّ الإسعاف الأوّليّ، لأنّها لن توصل البلد المصاب إلى التعافي من دون الإصلاحات المشروطة من قبل البنك الدوليّ، فلا تدابير تطبّق، ولا مؤشّرات تَحسُّن تُضيء في الأفق. أقلّه على مستوى الطاقة الّتي من شأنها دعم عمليّة الإنتاج المحلّيّ، بدل أن يكون سعر السلعة المحلّيّة النهائيّ أغلى من المستوردة، بسبب تكلفة الإنتاج المرتفعة.
وككلّ عمليّة جراحيّة، تعرف عمليّة رفع الدولار الجمركيّ احتمال قتل الاقتصاد المحلّيّ بدل دعمه ضدّ السلع المستوردة، لأنّه سيُقلّل الاستثمار، والعمالة في الاقتصاد الكلّيّ، خصوصًا مع عدم المقدرة على التحكّم بالتضخّم، وتقليل الناتج المحلّيّ الإجماليّ، وتفاقم العجز التجاريّ في نهاية الأمر.
وفي سيارة الإسعاف الّتي تحاول شقّ طريقها نحو المستشفى، يطلب أهل الجريح من المُسعفين الّذي يتسارعون بطيشٍ في بعض الأحيان لإنقاذ الاقتصاد اللبنانيّ، فيقولون لهم: قبل أن "تنقضّوا" على لبنان الجريح، عليكم تحضير أنفسكم كي لا يكون تدخّلكم سلبيًّا وأشدّ ضررًا... راجعوا حساباتكم: كيف ستتعاملون مع انخفاض القوّة الشرائيّة؟ وكيف ستردّون على مطالب الزيادة في الرواتب؟ وكيف لكم أن تزيدوا من احتياطات العملة الأجنبيّة لدى مصرف لبنان؟