كشف تحقيق استقصائي جديد لصحيفة "وول ستريت جورنال" تفاصيل صادمة عن عمليات الإعدام الجماعية والتعذيب الممنهج الذي مارسه نظام بشار الأسد في سوريا داخل سجن صيدنايا، الذي يُعرف بكونه أحد أكثر مرافق الاحتجاز رعبًا في العالم.
وقال التحقيق إنَّ "عمليات الشنق أصبحت أمراً روتينياً داخل أكثر مصانع الموت رعباً في عهد
بشار الأسد"، وأضاف: "مرة كل شهر، عند حلول منتصف الليل تقريباً، كان حرّاس سجن صيدنايا ينادون أسماء المحكوم عليهم بالإعدام، وهم بالعشرات دفعة واحدة، ثم يلفّون الحبال حول أعناقهم، ويسحبون الطاولات من تحت أقدامهم، فيصدر صوت احتكاك حاد يتردد صداه في أرجاء المبنى".
وأضاف: "أما من في الزنازين المجاورة، فكانوا يسمعون صوت اختناق الضحايا وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، إلا أنه في منتصف آذار من عام 2023، تسارع
الإيقاع بشكل دراماتيكي، بحسب شهادة ستة شهود".
ووقعت مجزرة 2023 الجماعية، التي لم يُكشف عنها سابقًا، في الوقت الذي كان فيه رئيس النظام السوري السابق بشار
الأسد، على وشك الخروج من عزلته الدولية.
لكن الانهيار المفاجئ لنظام الأسد أواخر العام الماضي كشف مدى فداحة الخطأ في تقديرات
المجتمع الدولي. ففي واحدة من أولى خطواتهم عند دخولهم
دمشق فجر يوم 8 كانون الأول، اقتحم الثوار السجن، وأطلقوا النار على الأقفال، وحرروا من تبقى من السجناء، كاشفين النقاب عن أحد أسوأ نماذج القتل المنهجي الذي ترعاه الدولة منذ الحرب العالمية الثانية.
وداخل السجن، الذي يتكوّن من مبنيَين من الخرسانة تحيط بهما الأسلاك الشائكة على أحد سفوح الجبال قرب دمشق، نفّذ نظام بشار الأسد عمليات تعذيب وقتل على نطاق هائل يُرجّح أنها أودت بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص على مدى أكثر من عقد.
وجرت عمليات القتل بأسلوب بيروقراطي نادر في التاريخ الحديث، إذ احتفظ جهاز الأمن التابع للأسد بسجلات دقيقة عن نقل المعتقلين إلى سجن صيدنايا ومرافق أخرى، فضلاً عن وثائق المحاكم وشهادات وفاة من تم إعدامهم.
ويقول ستيفن راب، السفير الأميركي السابق لشؤون جرائم الحرب: "إنها أسوأ فظاعة في القرن الحادي والعشرين من حيث عدد القتلى وطريقة تورّط الحكومة بشكل مباشر"، وأضاف: "أرى صلة مباشرة بينها وبين ما فعله النازيون وروسيا السوفييتية من حيث التنظيم المنهجي للإرهاب الذي تمارسه الدولة".
وقد ربط عدد من السجناء السابقين بين مجزرة آذار وتلك "الإصلاحات" التي أعلنها الأسد لاحقًا في العام نفسه، ضمن جهوده لكسب القبول الدولي، ففي وقت لاحق من عام 2023، ألغى الأسد المحكمة الميدانية العسكرية التي كانت ترسل العديد من المعتقلين إلى صيدنايا، وخفّف بعض أحكام الإعدام، ويعتقد معتقلون سابقون وخبراء في جرائم الحرب أن النظام ربما سعى إلى تنفيذ موجة قتل جماعية أخيرة قبل أن تؤدي تلك الإجراءات إلى إبطاء آلة الموت.
وأكد التحقيق أن تمكُّن الناجين اليوم من التحدث علنًا، ونشر أسمائهم ووجوههم، يُظهر كيف غيّر سقوط النظام بنية المجتمع السوري، فقد شملت قائمة من زُجّوا في صيدنايا خلال الحرب منشقين عن الجيش، ومقاتلين معارضين، وناشطين سلميين، كما شمل المعتقلون الذين أجريت معهم مقابلات ضمن هذا التحقيق عالمًا نوويًّا ومهندسًا اعتُقل لمجرد أنه كان صديقًا على
فيسبوك لشخص عبّر عن انتقاده للنظام.
وتُظهر شهاداتهم حجم التعذيب والقتل الذي وقع داخل السجن،
بعد سنوات من التقارير التي وثّقت هذه الانتهاكات، والتي صدرت عن محققين تابعين للأمم المتحدة، ومنظمات حقوقية مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، ومؤسسات مجتمع مدني كمركز العدالة والمساءلة السوري وقوة الطوارئ
السورية ورابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، بمعنى آخر، كان العالم يعرف عن صيدنايا، لكنه فشل في إيقاف الجرائم التي ارتُكبت بداخله.
وبالإضافة إلى آلاف من عمليات الإعدام المنظمة، يقول معتقلون سابقون وخبراء في جرائم الحرب إن عدداً مماثلاً ربما قُتل في صيدنايا تحت التعذيب وظروف الاحتجاز القاسية، والتي شملت الضرب بالعصي والأنابيب المعدنية، إلى جانب الجوع والعطش والأمراض.
وكان السجناء يُحتجزون في زنازين ضيقة معدنية الجدران، تعج بالقمل، ولا تحتوي إلا على فتحة صغيرة للتهوية، وكان يُمنع عليهم النظر في أعين الحراس، إذ قد يعرّضهم ذلك لضرب مبرح ينزفون إثره حتى الموت على أرض الزنزانة.
ويقول
علي أحمد الزوارة، وهو مزارع من ريف دمشق اعتُقل عام 2020 عن عمر 25 عاماً بسبب تهرّبه من الخدمة العسكرية: "كان صيدنايا كابوساً. كان مجزرة مستمرة. معظم من دخلوا لم يخرجوا أحياء".
أما المئات الذين خرجوا أحرارًا في كانون الأول، فكانوا يشكلون أقلية ضئيلة مقارنة بعشرات الآلاف من السوريين الذين فُقدوا خلال الحرب. ووفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي جهة رقابية موثوقة، فقد اختفى قسريًّا نحو 160,123 سوريًّا على يد نظام الأسد طوال سنوات النزاع.
وما زالت بعض العائلات تأمل في أن يكون أحبّاؤها على قيد الحياة، بينما بدأت عائلات أخرى تعيش نوعًا غريبًا من الحداد، تتقبل فيه فكرة موت أقاربها، من دون أن تعرف متى أو كيف ماتوا، فضلًا عن عدم قدرتها على دفنهم أو وداعهم الأخير.
تقول دينا قش، زوجة عمّار
درعا، وهو موزّع جملة اختفى عام 2013 بعد اعتقاله عن عمر 46 عامًا: "رغم أننا نعلم أنه انتهى به المطاف في صيدنايا، فإننا لا نعرف ما الذي جرى له. لم نستلم جثمانه قط".
وأكدت العائلة في كانون الأول أن درعا أُرسل إلى صيدنايا بعد العثور على وثائق تثبت ذلك في أحد مقارّ الاستخبارات عقب سقوط النظام، وتضيف: "علينا أن نقول: يرحمه الله، لكننا دائمًا نُتبعها بعبارة: سواء كان حياً أو ميتاً". (عربي21)