في خضم التصعيد الإقليمي المتسارع وتبدل التحالفات الدولية، تكتسب تصريحات المبعوث الأميركي توم براك أهمية خاصة، إذ تحمل بين سطورها إشارات تحذيرية جدية. وعندما يحذر براك
لبنان بالعودة إلى بلاد الشام فهو لا يتحدث عن خرائط جغرافية فحسب، بل يلمح إلى تغيير عميق في قواعد الاشتباك السياسي والأمني في
الشرق الأوسط، في ظل مساع أميركية لإعادة صياغة التوازنات، حيث لم يعد مسموحا أن يبقى لبنان خارج إطار أي تفاهمات إقليمية ترسم في
واشنطن وتفرض بالتوافق أو بالضغط.
من المتوقع أن يعود براك إلى
بيروت نهاية الشهر الجاري، حاملاً رسالة واضحة وصريحة إلى
القوى السياسية: أمامكم 60 يوماً فقط لتقديم جدول زمني واضح بشأن مسألتين محوريتين هما مستقبل سلاح
حزب الله وتوجهات الحكومة في المرحلة المقبلة. ليست هذه المهلة وليدة لحظة، بل تأتي ضمن سياق إقليمي أوسع، حيث وضعت ملفات
حماس، غزة، وإيران ضمن مهل زمنية مماثلة، في إطار استراتيجية أميركية تسعى لضبط ساحات النفوذ قبل الدخول في أي تفاوض شامل خلال الخريف المقبل، فواشنطن تعيد فرض إيقاعها على المنطقة وهذه المهلة ليست مجرد إجراء
دبلوماسي، بل نقطة مفصلية في مسار رسم التوازنات.
وفيما لا تزال بنود الأجندة الأميركية غير معلنة بالكامل، ما يفتح الباب أمام تفسيرات متعددة، تسأل مصادر سياسية، هل الهدف الأميركي هو فقط نزع سلاح حزب الله وتأمين الاستقرار على الحدود الجنوبية؟ أم أن المطلوب فعلياً هو إلحاق لبنان بقطار التطبيع مع
إسرائيل؟ في كلتا الحالتين، يبدو أن واشنطن لا تكتفي اليوم بالضغط العسكري أو الاقتصادي، بل تعمل عبر أدوات سياسية دقيقة واستباقية.
هذا الغموض المتعمد في الطرح الأميركي يضع حزب الله، بحسب أوساط سياسية، أمام مأزق حقيقي، فأي رد واضح قد يستخدم ضده، وأي تريث قد يفسر على أنه تهرب ومماطلة. من هنا، يتبع الحزب سياسة الصمت الحذر، في انتظار وضوح الصورة الإقليمية الأشمل، لا سيما نتائج المفاوضات الأميركية –
الإيرانية.
في المقابل، فإن ضغوط الداخل اللبناني تتزايد، من جهة القوى التي ترى أن بقاء الحزب خارج منطق الدولة يشكل عائقاً أساسياً أمام أي خطة إنقاذ اقتصادية أو إعادة تعويم سياسي. لكن في المقلب الآخر، يدرك الحزب أن أي تراجع في هذا التوقيت قد يفسر كهزيمة سياسية.
وعليه فإن مهلة الستين يوما المقبلة ترخي بثقلها على الداخل اللبناني. فإما أن تنجح القوى السياسية في إنتاج توافق وطني داخلي يقدم رؤية موحدة حول حصرية السلاح وخيارات السياسة الخارجية، أو أن يترك الملف اللبناني لمصير تحدده العواصم الإقليمية والدولية، من دون أي دور فاعل للمكونات
اللبنانية، وكما فرضت اتفاقية سايكس بيكو قبل قرن من الزمن لتقسيم المنطقة بين القوى الكبرى فإن السيناريو اليوم لا يختلف كثيراً، وإن كان يتم بأدوات أكثر نعومة.
وتشدد الأوساط على أن المهلة التي يضعها الأميركيون على الطاولة لا تقاس فقط بالأيام، بل بمآلاتها الاستراتيجية، فإما أن يتحول لبنان إلى دولة واضحة الخيارات ضمن إطار إقليمي مستقر، أو أن يترك للتفكك البطيء أو حتى لإعادة هندسة شاملة تكون فيها الكلمة الفصل لقوى الخارج.