نشر موقع "الجزيرة نت" تقريراً تحت عنوان: "تل الزعتر واغتيال جنبلاط.. بصمات مميزة للضابط السوري إبراهيم حويجي"، وجاء فيه:
"قناعتي أنه ممكن (أن يكون) النظام (السوري من) اغتال كمال جنبلاط، لكن (بخصوص) التأكيد.. إذا لم أكن مطّلعا، فأنا لا أستطيع أن أؤكد؛ حافظ
الأسد، إذا عنده سر.. ما حدا بيعرفه إلا الله"..
بهذه اللهجة الواثقة والمبنية على معايشة لصيقة للرئيس
الأسد لأكثر من 40 عاماً، تحدث نائبه الأسبق عبد الحليم خدام - في آذار 2017- للوثائقي المعنون "من قتل كمال جنبلاط؟" عن المسؤولية شبه المؤكدة للرئيس عن اغتيال جنبلاط قبل 48 عاماً، بسبب رفض الأخير
التدخل العسكري السوري في
لبنان عام 1976.
غير أن الوثائقي المذكور - الذي أنتجته
الجزيرة ضمن
سلسلة "الصندوق الأسود"- وإن لم يقدم دليلاً دامغاً على إيعاز
الأسد بالاغتيال، لكنه سلط ضوءاً كاشفاً - لأول مرة منذ وقوعه - على تفاصيل العملية والمشرف عليها، الذي كان وقتها ضابطاً مغموراً برتبة رائد، يدعى إبراهيم حويجي.
يكفي للاستدلال على دور حويجي بالاغتيال أن
وليد جنبلاط (نجل كمال) غرد على منصة إكس كاتبا عبارة "الله أكبر"، فور سماعه نبأ اعتقال الضابط السوري المتقاعد منذ أكثر من عقدين، في مسقط رأسه في جبلة في السابع من آذار 2025 على يد أجهزة الأمن العام التي تشكلت عقب انهيار نظام آل
الأسد. ما قاله جنبلاط هو رد فعل يعكس حجم الارتكابات المنسوبة لحويجي في أثناء عمله في
لبنان ضابط استخبارات ابتداء من عام 1976.
الحرس القديم
المعلومات عن حويجي قبل إرساله إلى
لبنان شحيحة، لكن السيرة المتداولة في الإعلام تقول إنه ولد في قرية عين شقاق بريف جبلة بمحافظة اللاذقية، وإن مسيرته العسكرية بدأت مطلع السبعينيات ليصبح لاحقاً أحد أبرز ضباط الاستخبارات السورية، بعدما تولى عام 1987 منصب مدير إدارة المخابرات الجوية خلفا للواء محمد الخولي.
واستمرّ حويجي في هذا المنصب إلى أن أقاله الرئيس السوري المخلوع بشار
الأسد من إدارة الاستخبارات الجوية عام 2002 بعد أن ترأسها قرابة 15 عاماً، ضمن محاولات
الأسد الابن لإضعاف نفوذ "الحرس القديم".
وإذا كانت أدوار حويجي داخل وطنه سوريا لم تتضح ملامحها حتى الآن، فإن الأدوار المنسوبة للضابط المذكور خلال خدمته في
لبنان تقاطعت مع أحداث مفصلية مست حيوات المئات من اللبنانيين والفلسطينيين الذين عارضوا
التدخل العسكري الذي وقع عام 1976 في سياق فرض ما عرف خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989) بـ"السلام السوري".
كيف وصل حويجي إلى لبنان؟ وأين كان مقره؟ وما بصمته في الأحداث، خصوصا في السنتين الأوليين من حرب لبنان؟
يتتبع الكاتب اللبناني نقولا ناصيف مراحل
التدخل السوري في
لبنان منذ اتخاذه أولا صيغة "وساطة" بين المتحاربين اللبنانيين يوم 24 أيار 1975 قادها وزير الخارجية وقتئذ عبد الحليم خدام ورئيس هيئة الأركان حكمت الشهابي، مروراً بإلحاق
الأسد مجموعة من ضباط الاستخبارات للمشاركة في كانون الثاني 1976 بـ"لجنة التنسيق العليا" التي شكلت قبل ذلك بـ3 أشهر بضغط من رئيس الحكومة رشيد كرامي لمتابعة وقف إطلاق النار، وصولا إلى
التدخل العسكري المباشر السابع من حزيران 1976.
وينقل ناصيف في كتابه المعنون "جيوش لبنان" عن العقيد السوري علي المدني قوله إن
الأسد التقاه في كانون الثاني لتبليغه بانتدابه لترؤس اللجنة الأمنية العليا المشكلة استناداًٍ إلى المبادرة السورية.
ويضيف أن
الأسد طلب منه اختيار 70 ضابطاً لإشراكهم في "مهمة قومية" في
لبنان، لخص
الأسد هدفها على النحو الآتي "إخوانكم المسيحيون في
لبنان قد يلجؤون إلى إسرائيل من جراء تعرضهم لضغوط قوية من الإخوان الفلسطينيين، عليكم أن تَحُولوا بمهمتكم القومية هذه دون ذلك".
يقول بلال حسن المسؤول عن فرع مخيم تل الزعتر في تنظيم الصاعقة (الفرع الفلسطيني لحزب البعث السوري) -في مقابلة مسجلة يوم 23 أيار 2017- إن الرائد إبراهيم حويجي كان ضمن ضباط اللجنة الأمنية، وكان مقره في ضاحية سن الفيل الملاصقة لمخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين.
ويضيف أن رائدا ثانيا يدعى رفعت انتدب للعمل في صيدا، وانتدب رائد سوري آخر لمنطقة الشمال يدعى منصور.
كان حسن وقتها مسؤولاً عسكرياً للصاعقة في تل الزعتر وعضواً في لجنة شرق بيروت التي ضمت الرائد حويجي بوصفه ممثلا للسوريين، وحبيب حكيم والحاج نقولا وجوزيف شديد وسليم رعيدي بوصفهم ممثلين للمليشيات المسيحية، إلى جانب شخص أرمني، بينما مثّل الدولة اللبنانية العقيد جوزيف خوري والنقيب سيف.
يقول حسن عن علاقته بحويجي خلال الشهور السابقة على مهاجمة تل الزعتر وترحيل سكانه إن الأخير كان يقول له: "يا بلال، كل يوم بدك تكتب لي تقرير(يقول) إن الفلسطينيين يضربون المسيحيين في مناطقهم". أجبته: "نحن لم نكن نضربهم". فقال لي: "هنالك قرار من حزب البعث، ومن السيد الرئيس (حافظ الأسد) بأننا نحن الفلسطينيين نضرب بالمدفعية مواقع المسيحيين والجبهة اللبنانية". ويستدرك حسن قائلاً: "كان هنالك نفور بيني وبينه. أنا كنت ملزم بأن أكتب التقرير، لأنه كان يقول لي اكتب! (..) وكنت أكتب".
وبعد أن قررت مليشيات اليمين المسيحي حسم معركة مخيم تل الزعتر عسكريا وشنت هجومها عليه في 22 حزيران 1976 بدعم سوري غير منظور، وقعت حادثة أخرى كان لحويجي بصمته الخاصة، في إطار ما سماه بلال حسن "قرارًا سوريًا بإسقاط المخيم لا رجعة عنه".
يقول حسن إن القوات المدافعة عن المخيم شنت في اليوم التالي -أي في 23 حزيران- هجوماً مضاداً تمكن خلاله المهاجمون من أسر 14 من تنظيم حراس الأرز ونقلهم إلى داخل إلى جامع أحمد الكامل، داخل المخيم على مقربة من مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني. ويضيف: "اتصل بي حويجي عبر الهاتف الذي كان ما زال يعمل، سائلا عن 14 شخصا مفقودين. فقلت له: تسأل عن 14 مفقودا ولا يهمك أمر 17 ألفا (من السكان) في المخيم، وأغلقت الهاتف".
ويستدرك قائلا "نزل علينا بعدها غضب الله"، في إشارة إلى القصف المدفعي الشديد من طرف المليشيات المهاجمة، ردا على أسر أفراد من عناصرها.
المحطة التالية في علاقة الرائد حويجي بتل الزعتر تلخصت في دوره راعيا لمحاولة مثيرة للجدل -بذلها حسن في الثالث من تموز 1976- لعقد هدنة بين مهاجمي المخيم من المليشيات والمدافعين عنه من الفصائل الفلسطينية تتيح إنهاء الحصار، وبدون تفويض من الأخيرة.
يقول حسن: "قمت آخذ المسؤولية على عاتقي.. هنالك ولد سوري مقاتل اسمه عنتر.. كتبت رسالة إلى إبراهيم حويجي قلت فيها: هل أنتم مستعدون لوقف إطلاق النار حتى نتباحث في عملية إخلاء مخيم تل الزعتر. أرسلت الرسالة مع عنتر. عاد الولد على الطريق في المرة الأولى (...) ثاني مرة، عاد لي بورقة من إبراهيم حويجي كتب فيها: هل هذا القرار هو قرارك الشخصي أم قرار كل المنظمات مجتمعة ؟. أرسلت له رسالة (قلت) فيها: هذا القرار قرار شخصي، وأنا ابن المخيم، وأنا أقدر وأعرف ما هو الموقف داخل المخيم. إذا أنتم وافقتم على هذا الطرح، أذهب واجتمع إلى القيادة الفلسطينية وأضعهم بصورة الوضع بأن علينا أن نعمل وفق الخطة التالية: المرحلة الأولى: وقف إطلاق النار، المرحلة الثانية: حصار المخيم من قبل الجيش السوري وإبعاد القوى الانعزالية عن المخيم، المرحلة الثالثة: إجلاء الجرحى والمصابين من المخيم، المرحلة الرابعة: إخلاء كل العجزة وكل الذين يسببون لنا إرباكا إلى خارج المخيم. أما موضوع المقاتلين، فيبقون في المخيم وتبحث قضيتهم مع القيادة الفلسطينية".
يتابع حسن: "هذا ما أرسلته بالحرف الواحد مع عنتر. عند عودة الولد، ألقت فتح القبض عليه. أخذوا منه الرسالة، وأعدموه".
ويجزم حسن في إطار شهادته بأن حويجي كان قائد القوة السورية المهاجمة لمخيم تل الزعتر، وأن آخر لقاء له به كان بعد فراره (أي حسن) إلى الجانب الآخر من خطوط القتال يوم 11 آب 1976، إثر اقتتال بينه وبين باقي الفصائل الفلسطينية، قبل يوم من سقوط مخيم تل الزعتر.
بعد انتهاء أحداث تل الزعتر بمجزرة ارتكبتها المليشيات يوم 12 آب بحق مدنييه، بقي حويجي - كما دلت الأحداث اللاحقة - يعمل في مقره في سن الفيل، وهو المقر ذاته الذي استُخدم بعد 7 أشهر غرفة عمليات لإدارة عملية اغتيال كمال جنبلاط زعيم الحركة الوطنية اللبنانية يوم 16 آذار 1977 مع مرافقيه في بعقلين.
ووقعت الجريمة التي لم يتحدد مرتكبوها، بعد أن حسمت الجولة الأولى من الحرب اللبنانية بهزيمة مشروع جنبلاط الإصلاحي، وبعدما أضفت قمة عربية طارئة عقدت في القاهرة في تشرين الأول 1976 الشرعية على القوة المهاجمة وسمتها "قوات الردع العربية".
أول الواصلين
وأبقى "السلام السوري" ملف اغتيال جنبلاط خارج التداول القضائي والإعلامي إلى ما بعد انتهاء وصاية سوريا على
لبنان وسحب جيشها منه عام 2005 إثر اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
وارتبط تحريك الملف مجددا عام 2015 بنشر العميد عصام أبو زكي القائد السابق للشرطة القضائية مذكراته المعنونة "محطات في ذاكرة وطن".
ويجزم أبو زكي الذي كان محققا وقت الاغتيال، وكان أول الواصلين إلى مسرح الجريمة أن الرأس المنفذ هو الضابط إبراهيم حويجي الذي كان مسؤولا عن مكتب القوات السورية في سن الفيل، والذي أصبح فيما بعد مديرا عاما للمخابرات الجوية السورية.
وكشف أبو زكي عن أن الجناة الأربعة الذين نفذوا الجريمة توجهوا بعد العملية إلى مكتب القوات السورية في دوار الصالومي بمنطقة سن الفيل.
ومن البراهين التي قدمها في شهادته التاريخية أن "السيارة المستخدمة في الجريمة كانت محتجزة في مرفأ بيروت، وتسلمها الضابط السوري داخل المرفأ، وبعد اختفائها دخلت
لبنان بلوحة عراقية"، كاشفاً عن أن "الحواجز السورية كانت تلقي للمسلحين الأربعة السلام عند إبراز بطاقاتهم".
وروى أبو زكي كيف صدر الأمر بالتوقف عن الوصول بالتحقيق إلى إصدار قرار ظني "بناء على طلب مرجع أعلى من الرئيس إلياس سركيس"، ثم إسقاط
وليد جنبلاط حقه و"قوله (..) في منزله بعد 40 يوما على وقوع الجريمة: إنني ذاهب إلى سوريا لأصافح اليد التي قتلت والدي".
ويوم 12 آذار 2017، ظهرت أدلة إضافية على قصة اغتيال جنبلاط وعلى دور إبراهيم حويجي فيه بعد عرض وثائقي "من قتل كمال جنبلاط؟" على شاشة
الجزيرة ضمن
سلسلة "الصندوق الأسود".
رتبة عالية
تضمن هذا الشريط شهادة جديدة لأبو زكي قال فيها بشأن العناصر الأربعة الذين نفذوا عملية الاغتيال "إنه الرائد السوري إبراهيم حويجي، الذي كان مسؤولا عن مكتب المخابرات السورية في مستديرة الصالومي، والذي تسلّم سيارة (من طراز) البونتياك واحتفظ بها. ولدينا إفادات تؤكد أنه كان يقود البونتياك ويستخدمها في تنقلاته الشخصية. وتوصلنا فعلا إلى اكتشاف تطابق صفاته على أحد المسلّحين الأربعة. كما أنّ الشاهد سليم حداد، الذي نقل المسلّحين إلى الصالومي، أكد أن شخصا جلس بجانبه وكانت لديه رتبة عسكرية عالية، وكان عناصر الحواجز السورية الذين ينتشرون على الطرق يؤدون له التحية العسكرية، والدليل أنهم قصدوا الصالومي، حيث كان مركز الرائد حويجي".
وأضاف أن القاضي الراحل حسن قواس قام بالتحقيق في مقتل كمال جنبلاط وتفاصيل السيارة التي لحقت به وكيف قتلوه على مشارف قرية بعقلين، وكيف ذهبت تلك السيارة إلى مركز المخابرات السورية في سن الفيل، مشيرا إلى أن "القضية حُولت كسائر الجرائم السياسة الكبرى إلى المجلس العدلي، الذي لا يستطيع أن يبت في مثل هذه القضية خلال الوصاية السورية على
لبنان، وكان هناك خوف منها".
لا تقود المؤشرات المتداولة إلى الجزم بمشاركة حويجي في اغتيال جنبلاط أو إشرافه عليه، لكن شهادة لرفعت
الأسد شقيق الرئيس حافظ في ختام شريط "الصندوق الأسود" رجحت أكثر من أي وقت فرضية تورط الاثنين:
الأسد وحويجي.
ويقول رفعت في هذا الصدد إن المخابرات الجوية منفصلة عن الجيش و"خاصة بالرئيس"، وإن قائدها إبراهيم حويجي هو من طلب إطلاق النار على جنبلاط، وهو "ما زال موجوداً في (مخابرات) القوى الجوية ولا يستطيع أن ينكر هذا الشيء، لأن عندنا 100 شاهد على الحادثة". (الجزيرة نت)