بمنطق الحروب، التي شهدها العالم، فإن نهاياتها الحتمية خلصت بمجملها إلى نوع من التسويات، التي غالبًا ما تكون لمصلحة البلد، الذي يُظهر بعض التفوّق الميداني من خلال الوقائع الحسّية، أو من خلال قدرة هذا الطرف أو ذاك على الصمود في مواصلة الضغط في ما يشبه عملية العضّ على الأصابع، التي تهدف إلى تقديم الطرف، الذي يشعر ببعض الوهن والتعب، بعض التنازلات السياسية. وهذا هو الواقع السائد بين إيران وإسرائيل، اللتين تحاولان فرض ما يتناسب مع وضعهما الداخلي وما يرايانه ملائمًا لهذه الأوضاع المختلفة ظروفهما وطبيعة صراعهما، وذلك بحسب طاقة كل منهما على الاحتمال.
فبعد مرور أسبوع على اندلاع هذه الحرب المفتوحة بين
إسرائيل وإيران، لا يختلف اثنان عاقلان على التأكيد بأن المنطقة برمّتها باتت تقف على حافة الانفجار الشامل، الذي ستكون له تداعيات سلبية خطيرة. وفي ظل الضربات المتبادلة التي طالت منشآت عسكرية، وأخرى حيوية في عمق كل من الدولتين، تسود حال من القلق العميق إزاء مصير هذا النزاع وحدوده، وما إذا كان قابلًا للاحتواء أو مرشحًا للتوسع أكثر مما هو عليه راهنًا.
في ميزان التحليل، يمكن القول إن هناك إمكانيتين متناقضتين تتقدم الواحدة على الأخرى وفق المعطيات الميدانية، التي نتجت حتى الآن، وبعد أسبوع من حرب لا هوادة فيها. الامكانية الأولى هي وقف الحرب في المدى القريب. أما الفرضية الثانية فتقول بانزلاق هذه الحرب إلى مواجهة طويلة ومعقدة؛ ولكل من الاحتمالين أو الفرضيتين أُسس موضوعية.
بالنسبة إلى فرضية وقف الحرب فإنه وعلى رغم التصعيد العسكري غير المسبوق، لا تزال بعض العوامل تُبقي باب التهدئة مفتوحًا، وإن كان ضيقًا، ومن بينها:
أولًا، الضغوط الدولية التي بدأت تتصاعد يومًا بعد يوم. فالقوى الكبرى، وعلى رأسها
الولايات المتحدة الأميركية، لا تبدو في وارد السماح بانفجار إقليمي غير محسوب النتائج والخسائر البشرية والمادية، الذي قد يهدّد إمدادات الطاقة العالمية، ويقوضّ ما تبقى من استقرار في
الشرق الأوسط. ومن هنا، بدأت قنوات خلفية بالتحرك، سواء عبر سلطنة عُمان أو أطراف أوروبية، في محاولة لتثبيت هدنة، ولو مؤقتة.
ثانيًا، هناك مخاوف حقيقية لدى الطرفين من كلفة الحرب. فإسرائيل تدرك أن مواجهة مباشرة مع إيران قد تفتح عليها جبهات متعددة من اليمن إلى
العراق فلبنان. أمّا إيران فهي ليست بدورها في موقع يسمح لها بخوض حرب طويلة الأمد، في ظل
العقوبات الخانقة، والوضع الداخلي المضطرب، والخطر على منشآتها النووية.
ثالثًا، لا يمكن التجاهل بأن الطرفين قد يستخدمان الحرب لتحقيق أهداف تفاوضية. فربما تسعى إسرائيل إلى تحسين شروطها إقليميًا، أو دفع
واشنطن نحو موقف أكثر تشددًا ضد طهران. فيما ترى إيران فرصة لإعادة خلط الأوراق بعد سلسلة من الخسائر الديبلوماسية في المنطقة.
ولكن، لماذا يُعتقد أن الحرب لن تتوقف قريبًا؟ سؤال يطرح نفسه بنفسه. وعلى رغم هذه المؤشرات الآنفة الذكر، تبقى إمكانية استمرار الحرب واردة جدًا، بل ربما تكون الأكثر ترجيحًا في المدى المنظور، لأسباب عدّة، ومن بينها:
أولًا، طبيعة "الصراع الوجودي" بين الطرفين، وهي تتجاوز الخلاف الحدودي أو السياسي، لتطال جوهر العقيدة الاستراتيجية لكل من الدولتين.
ثانيًا، رغبة الطرفين في فرض معادلات جديدة. فإسرائيل تسعى إلى إضعاف البرنامج
النووي الإيراني ومنع طهران من التمدد، فيما تريد إيران إثبات قدرتها على الرد والصمود، بل وتدفيع إسرائيل ثمنًا باهظًا على أي اعتداء تقوم به.
ثالثًا، غياب أي وسيط فاعل حتى اللحظة، وعدم وجود نية حقيقية لدى الطرفين بوقف إطلاق نار واقعي وفعلي على طاولة أي تفاوض ممكن. ومن شأن هذا الغياب لأي وساطة جدّية أن يجعل احتمال التصعيد مفتوحًا على مصراعيه.
رابعًا، هناك احتمال كبير بتوسع المواجهة لتشمل الجبهات
الإيرانية الرديفة، خصوصًا إذا قرّر "
حزب الله" الدخول في شكل مباشر في هذه المواجهة، أو إذا اشتعلت
الجبهة اليمنية والخليجية، الأمر الذي سيحّول الحرب إلى نزاع إقليمي شامل.
ولكن، ووفق منطق الحروب، لا يزال هناك أمل قائم في احتواء هذه الحرب إذا ما توافرت الإرادة الدولية، وإذا ما وافق الطرفان على كبح جماح التصعيد. لكن، في الوقت نفسه، لا مؤشرات واضحة بعد على أن نهاية المعركة قريبة. فالعوامل التي تدفع نحو استمرار القتال لا تزال أقوى من تلك التي تدعو إلى التهدئة.
وفي المحصلة، يمكن القول بأن منطقة الشرق الأوسط بأسرها تقف اليوم في وسط دائرة النار، والخيار بين الحرب الشاملة أو وقف إطلاق نار مشروط لم يعد في يد المتصارعين وحدهم، بل في يد القوى الكبرى التي لا تزال تراقب، وتُحجم عن التدخل الحاسم، على أن تبقى ورقة الحسم، حربًا أو سلمًا، في يد الرئيس الأميركي
دونالد ترامب.