في قلب التصعيد العسكري والأمني بين
إيران وإسرائيل، لا يبدو أن الضربات الجوية أو الرسائل الصاروخية هي ما سيحسم وجهة الحرب أو يحدّد المنتصر، إذ إن المعركة الحقيقية تدور في عمق جبال قم، حيث تتوارى "منشأة فوردو النووية" المحصّنة تحت الأرض، في قلب المشروع
الإيراني الذي يعتبره النظام خطاً أحمر لا يُمسّ. هناك، لا تُقاس موازين القوى بعدد
الغارات أو توقيت الردّ، بل بمدى القدرة على الوصول إلى هذا الهدف المغلق على نفسه، والمفتوح على تداعيات كبرى في حال اختُرق.
وفي ضوء ذلك، تُجمِع التقديرات العسكرية والاستخباراتية على أن "منشأة فوردو" باتت تمثل نقطة ارتكاز حاسمة في هذا الصراع، حيث إن استهدافها أو استمرارها في العمل من دون تعطيل سيشكّل المؤشّر الأكثر دقة على مَن تمكّن من فرض قواعد اشتباكه، ومَن خرج من هذه الجولة أكثر قدرة على رسم خطوط الردع المستقبلية.
"فوردو"، التي تقع على عمق عشرات الأمتار داخل جبل قرب مدينة قم، ليست مجرّد موقع للتخصيب، بل هي العمود الفقري للبرنامج
النووي الإيراني، حيث تُجرى عمليات تخصيب اليورانيوم إلى مستويات مرتفعة تقارب العتبة اللازمة لتصنيع السلاح النووي. وعليه، فإن استمرار عملها من دون تعطيل يعكس فشلاً في الجهود
الإسرائيلية الرامية إلى وقف هذا التقدّم، ويُعدّ بمثابة رسالة بأن إيران ما زالت تحتفظ بخيارها النووي متقدّماً وفي منأى عن الاستهداف الجدي.
من جانب آخر، ترى دوائر سياسية وأمنية أن نجاح أي عملية تهدف إلى تدمير "فوردو"، سواء عبر ضربة مباشرة أو هجوم سيبراني بالغ الدقة، سيشكّل تحوّلاً استراتيجياً من شأنه أن يُفرغ المشروع النووي الإيراني من مضمونه ويحوّله إلى هيكل فاقد للقدرة، الأمر الذي يوجّه ضربة قاصمة لصورة الردع التي تحاول
طهران ترسيخها في المنطقة. ويتعزز هذا التأثير إذا ترافق الهجوم مع ترتيبات تؤسس لمرحلة تفاوضية تفرض رقابة صارمة على المواقع النووية
الإيرانية.
إلى ذلك، تلفت مصادر مطّلعة إلى أن "فوردو" ستكون على رأس المنشآت التي ستخضع لتفتيش دولي دقيق في حال أُعيد إحياء مسار
دبلوماسي قائم على الشفافية النووية. وهو ما يعيد إلى الأذهان تجربة
العراق قبيل الغزو الأميركي عام 2003، حين تحوّلت البلاد إلى ساحة مفتوحة أمام لجان التفتيش، في مشهد لم يغب عن حسابات القيادة الإيرانية التي لطالما قدّمت "فوردو" كرمز للسيادة والردع.
بناءً على ذلك، فإن أي اختراق لهذه المنشأة، سواء عبر تفتيش خارجي أو تدمير فعلي، سيُعتبر بمثابة نكسة استراتيجية للنظام الإيراني، تُفقده إنجازه الأبرز في ملفه النووي، وتدفعه إلى مراجعة منظومته الأمنية والعسكرية، إذ إن المنشأة لم تكن فقط موقعاً فنّياً، بل واجهة لمشروع أيديولوجي طالما ارتكز على مبدأ الصمود بوجه الضغوط الغربية.
في المقابل، فإن بقاء المنشأة بمنأى عن أي استهداف سيضع
إسرائيل أمام معضلة مفتوحة، حيث إن استمرار نشاط "فوردو" يعني أن التهديد لم يُرفع وأن القدرة الإيرانية على تصنيع سلاح نووي ما زالت قائمة. الأمر الذي يدفع باتجاه خيارات أكثر جذرية، خاصة أن وسائل الاستهداف التقليدية لا تكفي لاختراق عمق هذه المنشأة المحصّنة. وهو ما يطرح تساؤلات جدّية حول احتمال لجوء
تل أبيب إلى خيار غير تقليدي، قد يتجاوز الحسابات العسكرية الكلاسيكية، ما يعيد طرح سيناريو الاستخدام النووي التكتيكي في حال تم تصنيف "فوردو" كخطر وجودي لا يمكن التهاون معه.
في الوقت نفسه، تفيد معلومات استخباراتية بأن
الولايات المتحدة الاميركية، وفي إطار تطويرها المتواصل لقدراتها العسكرية، أصبحت تمتلك قنابل خارقة متقدّمة قادرة على اختراق التحصينات الجبلية العميقة من دون الحاجة إلى اللجوء إلى السلاح النووي. الأمر الذي يدفع بعض التقديرات إلى ترجيح خيار الضربة الأميركية المباشرة أو المشتركة، سواء على شكل تنفيذ عملي أو من خلال تقديم الغطاء المعلوماتي واللوجستي لإسرائيل، إذا تم اتخاذ القرار السياسي الحاسم.
وفي ضوء هذه المعطيات، تتحوّل "فوردو" من مجرّد منشأة نووية إلى عقدة استراتيجية تُختزل فيها ملامح الاشتباك الإقليمي واتجاهات الصراع واحتمالات التسوية. ذلك أن أي مسّ بها سيشكّل لحظة حاسمة في تحديد من يملك القدرة على إحداث تغيير فعلي في موازين القوى. وعليه، فإن منشأة "فوردو" لم تعد مجرد رمز نووي، بل أصبحت مرآة صافية لصراع الإرادات بين مشروعين: أحدهما يختبر قدرته على البقاء، والآخر يراهن على الحسم قبل فوات الأوان.