تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات استراتيجية عميقة تكشف عن مسار جديد يستهدف البنى السياسية والديموغرافية لدولها. وفي ظل التصعيد الإسرائيلي المتواصل في غزة، وامتداده إلى جنوب لبنان وسوريا، تبرز ملامح مشروع بعيد المدى يستند إلى أدوات الحرب والتفتيت الداخلي، ويهدف إلى إعادة رسم خرائط النفوذ بما يخدم المصالح الإسرائيلية.
من أدوات هذا المشروع إعادة التفاوض حول الحدود، سواء البرية أو البحرية، تحت شعارات الأمن أو التنمية الاقتصادية. لكن التوقيت والأسلوب يشيران إلى محاولة فرض واقع جديد في
لبنان وسوريا يخدم مصالح
الاحتلال، خصوصا في ما يتعلق بالموارد الطبيعية من مياه ونفط وغاز. فما يقدم كحلول تقنية أو حقوقية، يخفي خلفه رغبة واضحة في السيطرة على مقدرات المنطقة.
تمرّ المنطقة اليوم بمرحلة إعادة تشكّل قسري، لا تقل خطورة عن تلك التي رافقت اتفاقية سايكس-بيكو قبل قرن من الزمن. لكن هذه المرة، ترسم الخرائط بالحروب المتنقلة، والضغط الاقتصادي، والتفتيت المجتمعي. ففي جنوب
سوريا يريد رئيس الوزراء الاسرائيلي إقامة منطقة عازلة تشمل جنوب
دمشق ومنطقة القنيطرة ومنطقة جبل الدروز (جبل العرب) أي محافظة السويداء.
وفي هذ التوقيت المفصلي داخلياً وإقليمياً، يعيش لبنان حالة من الاستقرار الهش، في وقت يشهد فيه الإقليم إعادة تشكل للخرائط السياسية والجغرافية. وفي الوقت الذي يوجه فيه "
حزب الله" إشارات انفتاح محسوبة على الداخل اللبناني، فإن الضغوط الأميركية تتزايد، حيث أبلغت
واشنطن لبنان بضرورة نزح السلاح الثقيل من شمالي الليطاني وبيروت والبقاع قبل نهاية العام الحالي، مشددة على أن الحكومة مطالبة بحل المشكلات بدل الاستمرار في إضاعة الوقت.
وفي السياق، تواصل اللجنة الرئاسية دراسة المقترحات الواردة في الورقة الأميركية المتعلقة بسلاح حزب الله، فالورقة الأميركية تركز على ضرورة نزع سلاح حزب الله باعتباره شرطاً أساسياً لاستعادة سيادة الدولة، وتحذر من أن لبنان قد يجد نفسه خارج المعادلات الإقليمية الجديدة.
لا يوحي الواقع بإمكانية تنفيذ هذا الشرط بسهولة. فالحزب، بحسب المصادر، يرفض ما بات يعرف بـالاقتراحات الأميركية بشأن الحدود أو التهدئة او السلاح. فالحزب، في موقفه المعلن، لا يرى في هذه المبادرات، إلا محاولة للالتفاف على التفاهمات السابقة، وتثبيت واقع سياسي يخدم
إسرائيل. فرفضه اعتبارها أرضية تفاوضية يعبر عن أزمة ثقة عميقة مع الوساطة الأميركية، ويضع شروطا سياسية لأي نقاش دولي، أبرزها الالتزام بالتفاهمات السابقة وعدم تجاوز خطوط التفاوض المعترف بها سابقًا.
رغم ارتفاع السقف في الخطاب الخارجي، فإن الحزب لا يغفل الشأن الداخلي، بل يشير إلى وجود تقاطعات لبنانية تظهرت في جلسة مناقشة السياسات الحكومية، واستعداده للحوار حول قضايا السيادة والاقتصاد. لكن هذا الانفتاح ليس مفتوحا على مصراعيه، بل يخضع، بحسب المصادر، لشروط أبرزها: جدية الأطراف، واستقلالية القرار اللبناني عن أي وصاية أو تدخل خارجي. في هذا السياق، يبدو الحزب وكأنه يرسل رسالة مزدوجة مفادها لا مانع من الحوار، لكن لا تنازل عن الثوابت. واللافت أيضاً في مقاربة الحزب، بحسب المصادر، اعتباره أن قرارات
مصرف لبنان، تمثل انعكاساً لإملاءات خارجية تستهدف بنيته الاجتماعية. فما يجري، بحسب منطق الحزب، يأتي من ضمن الأسلحة السياسية التي يراد منها ضرب نفوذه المجتمعي.
بين لغة التصعيد وشروط الحوار، يريد حزب الله تثبيت أوراقه والاحتفاظ بموقعه كشريك سياسي داخلي لا يمكن تجاوزه، رافضاً لأي مبادرة خارجية لا تراعي توازنات القوى، علماً أنه يتقاطع مع انفتاح مشروط على تفاهمات لبنانية، لكنه لا يخفي أولوية معركته الأولى كما يسميها والمتصلة بكيفية مواجهة الضغوط الأميركية –الإسرائيلية.