في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة تعصف بلبنان منذ عام 2019، لم يكن المواطن العادي وحده من دفع الثمن، بل طالت تداعيات الانهيار أصحاب الثروات الكبرى أيضًا. فقد تحوّل لبنان، الذي كان يومًا ما ملاذًا ضريبيًا جذابًا ومركزًا مصرفيًا إقليميًا، إلى بيئة طاردة لأثريائه، مع استمرار الانهيار المصرفي، وتجميد الودائع، وغياب أفق الإصلاح. وإلى جانب الأزمة المالية، تتراكم فوق رؤوس أصحاب الملايين في لبنان غيوم قاتمة: من إدراج البلاد على "القائمة الرمادية" لمجموعة العمل المالي، إلى الاضطرابات السياسية المتواصلة، والحرب الإقليمية التي تلقي بظلالها الثقيلة على الشرق الأوسط.
في هذا السياق، يكشف تقرير جديد صادر عن شركة "هنلي أند بارتنرز" المتخصصة في شؤون الهجرة والاستثمار، عن مسار واضح لهجرة أصحاب الثروات من لبنان نحو وجهات أكثر استقرارًا وجاذبية، في مقدمتها قبرص، واليونان، والإمارات العربية المتحدة. ففي وقت تعزز فيه دول الخليج، وتحديدًا
السعودية والإمارات، مكانتهما كوجهات عالمية للثروات بفضل برامج التأشيرات الذهبية والمبادرات الاستثمارية، يتسارع نزيف الأثرياء في لبنان، في مشهد يعكس عمق الأزمة
اللبنانية وتحوّل موازين الجاذبية المالية في المنطقة.
حسب الارقام، فقد تصدر لبنان دول المنطقة لناحية هجرة "أصحاب الملايين" منه، إذ أظهرت آخر الأرقام تراجعا في عدد الاثرياء الذين يستثمرون في لبنان بنسبة 60%، مقابل 20% في مصر، إذ تعتبر
الدولة العربية الثانية بعد لبنان، بفارق 40%، والذي يعتبر رقمًا كبيرًا جدًا، يُظهر مدى تأثر لبنان بالاحداث التي بدأت تضرب البلاد منذ عام 2019، إبّان الازمة الاقتصادية، وصولا إلى الحرب الاسرائيلية على لبنان، وانتهاء بتوسع الحرب في الشرق الأوسط.
وحسب أرقام الدراسة التي اطّلع عليها "لبنان24"، فمن المتوقع أنّ ينتقل 142 ألف مليونير دولي هذا العام، وهو رقم قياسي ، حيث من المتوقع أن تشهد
المملكة المتحدة أكبر تدفق صافٍ للأفراد ذوي الثروات العالية، حيث سيغادرها 16,500 مليونير في عام 2025، أي أكثر من ضعف
صافي التدفق المتوقع من
الصين، والذي يبلغ 7,800 مليونير، والتي احتلت المرتبة الثانية هذا العام بعد أن تصدرت قائمة أصحاب الثروات الخاسرين سنويًا على مدار العقد الماضي. في المقابل، تحتفظ الإمارات العربية المتحدة بمكانتها كأكبر وجهة عالمية لجذب الثروات، مع توقع صافي تدفق قياسي يبلغ أكثر من 9,800 مليونير هذا العام، أي أكثر من 2,000 مليونير من
الولايات المتحدة الاميركية التي احتلت المركز الثاني . ومن المتوقع أن يعود أكثر من 7,500 مهاجر ثري جديد إلى أميركا بحلول نهاية العام.
ليست المملكة المتحدة وحدها في هذه المعاناة. فلأول مرة، من المتوقع أن تشهد الدول الأوروبية الكبرى، فرنسا وإسبانيا وألمانيا، خسائر صافية في ثرواتها عام 2025، مع توقعات بخروج صافي قدره -800، و-500، و-400 مليونير على التوالي. كما بدأت أيرلندا (-100)، والنرويج (-150)، والسويد (-50) تشهد خسائر كبيرة في ثرواتها، مع انتقال العديد من
الأوروبيين الأثرياء إلى مراكز استثمارية أكثر ملاءمةً للمستثمرين في القارة. من المتوقع أيضًا أن تشهد إيطاليا والبرتغال واليونان تدفقات قياسية قدرها +3,600 و+1,400 و+1,200 على التوالي، حسب الدراسة.
خارج
أوروبا، عزز الطلب القوي من المملكة المتحدة والهند وروسيا وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، بفضل خيارات التأشيرة الذهبية الجذابة، مكانة الإمارات العربية المتحدة كملاذٍ للثروات الأكثر رواجًا في العالم (+9,800). وتُعد
المملكة العربية السعودية أكبر الصاعدين في قائمة الوافدين هذا العام، ومن المتوقع أن تشهد تدفقًا صافيًا لأكثر من 2,400 مليونير، حيث ستستفيد المملكة من زيادة في أعداد المواطنين العائدين والمستثمرين الدوليين المقيمين في الرياض وجدة.
وحسب الدراسة، فعلى الرغم من استمرار عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، من المتوقع أن تشهد
إسرائيل تدفقات خارجية متواضعة نسبيًا، تتجه بالأساس إلى الولايات المتحدة ، بينما يواجه لبنان (-200) خسائر مقلقة، مع انتقال العديد من الأفراد الأثرياء إلى قبرص واليونان والإمارات العربية المتحدة . كما ستفقد
إيران (-200) أصحاب الثروات العالية الذين يتجهون إلى الإمارات العربية المتحدة.
تُشكّل خسارة لبنان لنحو 200 مليونير خلال عام واحد مؤشرًا بالغ الخطورة، ليس فقط من الناحية العددية، بل من حيث الرمزية الاقتصادية والسياسية. ففي حين تواجه دول مثل إسرائيل وإيران تدفقات خارجية مماثلة، فإن السياق اللبناني يبدو أكثر إلحاحًا وقلقًا، إذ تأتي هذه الهجرة في لحظة انهيار شامل في بنية الدولة المالية، وسط عجز عن تقديم أبسط مقومات الأمان الاستثماري أو المصرفي. ومن اللافت أن وجهات المغادرة من لبنان هي قبرص، اليونان، والإمارات، ليست فقط ملاذات مالية، بل أيضًا محطات استراتيجية لإعادة تموضع رؤوس الأموال الهاربة من بيئات مأزومة.
ما يضاعف خطورة هذا النزيف هو أنه لا يقابله أي تدفّق داخلي أو عودة استثمارية معاكسة، ما يجعل الرصيد الصافي سلبيًا بالكامل. وهذه الخسارة لا تعني فقط رحيل أفراد، بل تفريغًا تدريجيًا للبنية المالية من محركات النمو، خصوصًا أن هؤلاء الأثرياء كانوا، في مراحل سابقة، مصدرًا رئيسيًا للتمويل، والعملات الأجنبية، والديناميات الاقتصادية على مستويات مختلفة. الهجرة هنا، إذًا، ليست فعلًا فرديًا فقط، بل تحوّلًا هيكليًا في علاقة الثروة بالدولة اللبنانية، والآثار ستتوسع وتظهر تباعًا طالما لا يوجد استثمارات جديدة ضخمة تغطي ما خسره لبنان.