إذا سلّم المرء العاقل بجدلية الادعاءات
الإسرائيلية عن الأسباب، التي تحدو بالعدو لمواصلة ما يقوم به من عدوان على الضاحية الجنوبية لبيروت مثلًا، أو على أي منطقة لبنانية في الجنوب أو
البقاع، زاعمًا بأن هذه الأهداف تعود إلى مخازن أسلحة لـ "
حزب الله"، فإن ما قامت به في هذا التوقيت بالذات يخرج عن سياق "الحروب التقليدية". ولأن
إسرائيل تعتبر أن هذه الأسلحة هي تهديد مباشر لأمنها القومي تسمح لنفسها باستباحة الأراضي
اللبنانية، وتوجيه الضربات الموجعة حيثما لزم الأمر ذلك، من دون أن تأخذ في الاعتبار ما تسبّبه هذه الغارات الوحشية من أذىً مادي ومعنوي لشريحة واسعة من اللبنانيين، الذين يقطنون في محيط هذه الأهداف، سواء أكانوا هؤلاء المواطنون مؤيدين لنهج "
المقاومة الإسلامية" أو حتى معارضين لها أو غير مبالين بما يهدف إليه "حزب الله" من خلال تخزين أسلحته في الأحياء السكنية المكتظة، بحسب الادعاءات الإسرائيلية.
وإذا ذهب المرء إلى حدّ تصديق "الخبرية" الإسرائيلية عن مخازن السلاح، وهو أمر غير مثبت وغير مؤكد، فمن حقّه وحقّ كل مواطن لبناني، وإن لم يكن من سكّان الضاحية الجنوبية، أن يسأل هذا السؤال البديهي والطبيعي: ألم يكن في استطاعة إسرائيل، التي تسيطّر على الجو اللبناني بواسطة طيرانها ومسيّراتها والـ M K، التي لا تغيب عن سماء
لبنان لا ليلًا ولا نهارًا، أن ترجئ غاراتها إلى يوم آخر، خصوصًا أنها تعرف ماذا يعني عيد الاضحى بالنسبة إلى المسلمين، وما يرمز إليه من معاني التضحية.
أمّا وقد قامت إسرائيل بهذه الغارات الوحشية ليلة العيد ففي الأمر "إنّ". وهذه الـ "إن" تكشف النوايا الخبيثة لعدو غاشم، لا يقيم أي اعتبار لمشاعر الناس، حتى ولو كانوا من ألدّ أعدائه. وهذا ما لا تقّر به لا الشرائع السماوية ولا القوانين الأرضية.
إن أقّل ما يُقال عن هذه الغارات ليلة عيد الاضحى المبارك، إضافة إلى أنها عدوانية وهمجية، إنها لا تمتّ إلى الإنسانية بأي صلة لا من قريب ولا من بعيد. فإسرائيل تقصّد القيام بعدوانها هذا في هذا التوقيت بالذات لاعتبارات تعود في جذورها إلى المحاولات اليائسة، التي سعى إليها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو منذ اليوم الأول بعد عملية "طوفان الأقصى"، من خلال تصوير حربه ضد
الفلسطينيين بأنها حرب دينية، وذلك لتأليب الرأي العام العالمي، الذي لا يزال يخضع في خلفياته لمنطق "المحرقة اليهودية" في زمن المانيا النازية، وما لها علاقة بـ "السامية".
فإصرار نتنياهو على تغليف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بلبوس ديني وتلمودي، وامتدادًا نحو الضاحية الجنوبية، وتحويله إلى ما يشبه "حربًا تلمودية"، يعكس أبعادًا سياسية وأيديولوجية عميقة لها عدة دوافع، ومن بينها:
أولًا، تحقيق غطاء ديني للصراع السياسي، إذ أن نتنياهو يدرك أن "شرعنة" سياساته داخليًا تتطلب خطابًا تعبويًا يحفّز الجمهور
الإسرائيلي، لا سيما اليمين الديني المتشدد. وباستخدامه الرموز التوراتية والتلمودية، اعتقد أنه قادر على تحويل المعركة إلى "معركة وجودية"، من خلال إلباسها طابعًا مقدسًا، ما يعطيها قوة رمزية تفوق كونها مجرد نزاع سياسي. فاستخدم تعابير لديها وقع خاص لدى المجتمع اليهودي. ومن بين هذه التعابير: "عملاق الشر" أو "نحن نسل يوشع بن نون". وبهذه التعابير استطاع أن يعيد إنتاج روايات تلمودية قديمة عن "أرض الميعاد" و"التطهير الإلهي".
ثانيًا، كسب دعم
التيار الديني المتشدد والمستوطنين. وبهذا يعتقد نتنياهو أنه كسب رهان التحالف مع الحركات الصهيونية الدينية، وخصوصًا المستوطنين الذين يرون في الضفة الغربية "يهودا والسامرة" جزءًا من أرض التوراة. فتحويل الصراع إلى "حرب دينية"، بالنسبة إليه، يكرّس دعم هؤلاء له، خصوصًا عندما يشعرون أن "النبوات التوراتية" تتحقق عبر سياسات التوسع والضم.
ثالثًا، تشتيت الانتباه عن أزماته الداخلية، وهو الذي يواجه منذ سنوات ملفات فساد واحتجاجات سياسية حادة. لذلك حاول تصعيد الخطاب الديني لاعتقاده أنه قد يحوّل التركيز من قضاياه القانونية والسياسية إلى خطاب تعبوي يوحّد الداخل خلفه تحت شعار "الخطر الوجودي".
رابعًا، " شيطنة" الطرف الفلسطيني والعربي، إذ أنه عندما يُصوّر نتنياهو الصراع على أنه ديني، يصبح الفلسطيني "عدوًا لله" وليس خصمًا سياسيًا. وهذا الأمر يُسهّل عليه تبرير العنف المفرط، ويُغلف الجرائم بسياج "الواجب الديني". كما يزرع في الوعي
الغربي سردية أن إسرائيل "تحارب الإرهاب الإسلامي" وليس شعبًا يطالب بحقوقه.
خامسًا، رسالة إلى الغرب، باعتبار أن إسرائيل تخوض "معركة الحضارات". فالخطاب التلمودي يخدم أيضًا رواية إسرائيل بأنها "قلعة الحضارة اليهودية والغربية" في وجه "البرابرة"، بحسب مزاعمه، ما يُسهّل له استدرار التعاطف الغربي، خاصة من اليمين المسيحي الإنجيلي في
الولايات المتحدة.
فنتنياهو لا يُحوّل الصراع إلى "حرب تلمودية" عن عبث، بل لأهداف سياسية داخلية وخارجية. لكنه بهذا ينسف فرص السلام، ويقود المنطقة إلى صراع ديني مفتوح قد تتجاوز نيرانه فلسطين وإسرائيل إلى الإقليم برمّته. وما الغارات التي شنها طيرانه على الضاحية الجنوبية لبيروت ليلة عيد الأضحى سوى حلقة في مخطّط "جهنمي" يسعى إليه منذ اليوم الأول لحربه الواسعة في فلسطين ولبنان.