للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب، تتعرض الضاحية الجنوبية لبيروت لهذا الكم الكثيف من
الغارات الجوية
الإسرائيلية، في تصعيد بالغ الخطورة وغير مسبوق من قبل
تل أبيب. الغارات، التي امتدت على مدار ساعات واستهدفت مواقع مدنية، شكّلت تحوّلاً واضحاً في طبيعة المواجهة، وفتحت الباب أمام احتمالات واسعة.
لكن خلف هذا التصعيد، ثمة أسئلة جوهرية تُطرح حول دوافعه وأهدافه. فمن جهة، يروّج الجيش
الإسرائيلي لرواية تفيد بوجود أسلحة وذخائر تابعة لحزب الله، داخل بعض الأبنية المستهدفة. غير أن التسريبات الأمنية تشير إلى أن وحدات من الجيش دخلت هذه المواقع ولم تعثر على أي أثر للسلاح. هذه المعطيات تعزز فرضية أن الغارات لم تكن مدفوعة بأهداف ميدانية حقيقية، بل تحمل رسائل سياسية تتجاوز الجغرافيا
اللبنانية.
في جوهرها، تهدف هذه الضربات إلى الاستمرار في الضغط على
لبنان كجزء من استراتيجية تل أبيب للردع، لكنها تتعدى ذلك نحو الداخل الإسرائيلي. فالائتلاف الحاكم
في إسرائيل يعيش أزمة وجودية حقيقية، مع تصاعد الدعوات لانتخابات مبكرة قد تطيح برئيس الحكومة
بنيامين نتنياهو. وفي ظل الفشل في حسم المواجهة في غزة والتراجع الشعبي داخل
إسرائيل، يبدو أن الحكومة تسعى إلى تصدير أزمتها إلى الخارج، عبر توسيع رقعة المواجهة وتحويل الأنظار عن إخفاقاتها السياسية والعسكرية.
ولا يمكن فصل هذا التصعيد عن السياق الإقليمي والدولي، حيث تُظهر المعطيات أن
واشنطن وطهران باتتا أكثر انفتاحاً على إنجاز اتفاق نووي جديد، خاصة مع دخول
موسكو كوسيط فاعل في المحادثات. هذا التطور يُحرج تل أبيب ويحدّ من قدرتها على تنفيذ أي عملية استباقية ضد
إيران، ما يدفعها إلى خلق حالة توتر في لبنان للتشويش على المسار التفاوضي ومنع تبلور اي توافق من دونها.
الغارات على الضاحية ليست فقط تطوراً عسكرياً مقلقاً، بل تعبير عن مأزق إسرائيلي داخلي ورغبة محمومة في كسر المعادلات الإقليمية. الرد اللبناني – حتى الآن – لا يزال محسوبا وسياسيا، لكن استمرار هذا النوع من الاعتداءات قد يفتح الباب أمام تصعيد أوسع..