يبدو أن لبنان يقف مجددًا على مفترق طرق حرج، وسط تصاعد التهديدات الدولية والإقليمية، وتحذيرات متزايدة من أن استمرار الوضع الراهن، لا سيما بقاء سلاح "حزب الله" خارج منظومة القرار الرسمي، قد يفتح الباب أمام حرب جديدة، قد تكون أقسى من كل ما شهده البلد سابقًا، وأشدّ تعقيدًا من أي مواجهة سابقة.
في الكواليس الدبلوماسية، لا تخفي العواصم الغربية، لا سيما
واشنطن وباريس، قلقها من استمرار الوضع
اللبناني على ما هو عليه. وتتوالى الضغوط والرسائل الدولية إلى بيروت، ومفادها أن "لا استقرار في لبنان ما لم يُعالج ملف سلاح حزب الله". والرسائل الدولية، التي باتت أكثر وضوحا وحدة، وتحوّلت من تحذير إلى إنذار صريح: إما تسوية شاملة تسحب سلاح الحزب أو تهديد بحرب أوسع.
في الداخل، لا يبدو المشهد أكثر وضوحا. الخلافات بين القوى السياسية لا تزال عميقة، والاصطفافات لا تساعد على بناء تسويات. لكن خلف الضجيج، هناك حركة سياسية تطبخ على نار هادئة، في بعبدا، وقد تحمل تحولا نوعياً وتخفف من الضغوط الخارجية ، يقول مصدر سياسي، فإذا ما نجح حزب الله في التوصل إلى تفاهم سياسي شامل مع رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، فإن لبنان قد يشهد تبدلاً جذرياً لمصلحة البلد. ومثل هذا التفاهم سيعني تعاونا وتفاهماً بين الحزب والمؤسسة
العسكرية بطريقة ما سواء عبر انضمام عناصره الى الجيش أو من خلال أفكار وطروحات أخرى.
إن أي تفاهم من هذا النوع لن يمر دون معارضة داخلية. فبعض القوى السياسية تعارض الحزب انطلاقا من رؤية سياسية مختلفة للدولة والسلاح وقدمت نفسها كامتداد لبعض المشاريع في لبنان، ولذلك فإن الرد من الاوساط الشيعية على الخطاب الرافض لأي حوار مع حزب الله لا يخلو من السخرية: "من يرفض حوارنا، بالناقص منو"، في إشارة إلى لا مبالاتها تجاه الدعوات الرافضة للحوار.
وفي السياق جدّد
الأمين العام لحزب الشيخ نعيم قاسم، التأكيد على تمسّك الحزب بسلاح
المقاومة، مشدداً على أن "لا أحد سيسمح بنزعه". واعتبر قاسم أن الدعوات لنزع السلاح تصب في مصلحة
إسرائيل، واصفاً إياها بـ"الخدمة المجانية للعدو" ومحذراً من "فتنة لن تحصل".
ورأى قاسم أن بعض الجهات في الداخل تروّج لفكرة أن سلاح المقاومة هو المشكلة الأساسية، فيما أكد أن المشكلة الحقيقية تكمن في استمرار الاحتلال
الإسرائيلي وانتهاكاته للسيادة
اللبنانية.
وفي ما يخصّ القرار الدولي 1701، أشار إلى أن حزب الله التزم بالكامل ببنوده في منطقة جنوب الليطاني، محمّلاً إسرائيل مسؤولية الخروقات، ومؤكداً أن النقاش حول البنود الأخرى في القرار لا يبدأ إلا بعد
التزام إسرائيل الكامل.
أما في ما يتعلق بالاستراتيجية الدفاعية، فاعتبر قاسم أن رئيس الجمهورية، جوزف عون، هو الجهة المعنية بإطلاق الحوار بشأنها، لكنه شدّد على رفض أي نقاش تحت الضغط أو الإملاءات الخارجية. وقال إن الاستراتيجية الدفاعية يجب أن تُبنى على تقوية الجيش والاستفادة من سلاح المقاومة كجزء من عناصر القوة الوطنية.
الى ذلك تتردد معلومات عن احتمال انسحاب إسرائيلي تدريجي من بعض النقاط المتنازع عليها في الجنوب اللبناني، في حال تم التوصل إلى اتفاق نووي جديد بين واشنطن وطهران. هذا الانسحاب قد يقدَّم ضمن تسوية إقليمية كبرى تهدف إلى تهدئة ساحات التوتر، من الخليج إلى البحر المتوسط، وربما يفتح الأجواء اللبنانية مجدداً أمام الطيران الايراني والأموال الايرانية لإعادة الاعمار ضمن حزمة متكاملة تتصل بإيجاد حل لمسألة السلاح في شمال الليطاني.
وفي السياق نفسه، تشير تسريبات إلى أن رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون نقل رسائل مباشرة إلى المسؤولين
الأميركيين، حذّر فيها من مغبة دفع اسرائيل بالأوضاع نحو التفجير، قائلاً بوضوح: "لا تدمّروا لبنان". موقف يعبر، بحسب المصدر السياسي، عن إدراك عميق لمخاطر المرحلة، ومحاولة استباقية لفرملة أي طموح إسرائيلي باستخدام الساحة اللبنانية كورقة ضغط على حزب الله.
وعليه يمكن
القول أنه رغم انتقاداته، لا يغلق الشيخ قاسم الباب تماماً أمام النقاش الداخلي، بل يربطه بسياق معيّن لجهة أن يكون تحت رعاية رئاسة الجمهورية، وفي الوقت المناسب، أي حين تكون الظروف ملائمة لحزب الله وليس بضغط خارجي.
وتتوقف أوساط سياسية قريبة من "الثنائي الشيعي" عند تسريبات يتم تناقلها عن بعض الأصوات داخل "
القوات اللبنانية"، التي وإن لم تعلن صراحة تأييدها، إلا أنها توحي بميل ضمني إلى اعتبار الضربات
الإسرائيلية الأخيرة على مواقع للحزب في الجنوب جزءا من لعبة توازن جديدة، قد تضعف الحزب داخلياً وتمنح خصومه السياسيين بعض الأفضلية، ردت بالقول الرهان على الضربات لا يصنع مشروعاً سياسياً وطنياً. فالمعادلة اللبنانية أثبتت مراراً أن العنف الخارجي لا يضعف طرفاً بقدر ما يعيد ترتيب الاصطفافات حوله.
لبنان اليوم أمام معادلتين لا ثالث لهما: إما حوار يفضي إلى تسوية وطنية برعاية إقليمية ودولية تضمن استقرار الكيان، أو انفجار أمني وسياسي قد يخرج الجميع من المعادلة.
الكرة لم تعد في ملعب طرف دون سواه، بل في ملعب الجميع والمطلوب ليس تبادل التهم، بل صياغة مشروع إنقاذ جامع قبل أن يفوت الأوان، يقول مصدر دبلوماسي.