يُجمع خبراء الانتخابات بكل أنواعها على الأهمية القصوى للانتخابات البلدية والاختيارية، التي تعلّق عليها الأحزاب السياسية الآمال العريضة كمؤشّر لما ستكون عليه الانتخابات النيابية بعد نحو سنة من الآن. وتتقدّم هذه العملية اليوم كأولوية على سائر الأولويات، وذلك نظرًا إلى تحديد الأحجام
الشعبية، والتي ستفرزها صناديق الاقتراع على المستوى البلدي والاختياري بعد أقل من شهر، بعدما تمّ إرجاؤها أكثر من مرّة، والتي سيكون لها التأثير الكبير على الاستحقاق النيابي.
ولأن الأحزاب الكبرى، التي لها حضور وازن في مجلس النواب، وتسعى إلى أن يبقى رصيدها النيابي مرتفعًا، تأخذ الانتخابات البلدية والاختيارية هذه السنة كبعد مغاير عمّا كانت عليه الحال في السنوات الماضية، حيث كان للعائلات في
البلدات والقرى كلمة الفصل في الخيارات المحلية، فيما لم يكن للتأثير الحزبي الأرجحية في العملية
الانتخابية. لكن هذه الانتخابات في دورتها الحالية تخرج عن إطارها المعتاد، وذلك في محاولة من قِبل هذه الأحزاب لإثبات وجودها السياسي في المناطق، التي لها نفوذ وتأثير أكثر من غيرها من الأحزاب المنافسة لها شعبيًا ونيابيًا.
ففي هذه الانتخابات يسعى كل حزب من هذه الأحزاب إلى أن يُظهر مدى قدرته على الإمساك بالشارع، الذي يُعتبر من بين معاقله الأساسية، من حيث قدرته على التجييش، وذلك لما لهذا الاستحقاق من انعكاسات مباشرة على حصّة كل حزب أو
تيار أو تجمّع سياسي. وما ينسحب على هذا الحزب يمكن تعميمه على سائر الأحزاب، التي ترى أن من مصلحتها أن تكون
المجالس البلدية والاختيارية ميّالة إلى نهجها، خصوصًا أنها تُعتبر مفاتيح انتخابية أساسية في الاستحقاق النيابي، وذلك نظرًا إلى قوة التأثير المباشر لرؤساء البلديات والمخاتير ورؤساء الاتحادات البلدية لما لهم من سلطة تقريرية على المستوى المحلي لكل مدينة أو بلدة أو
قرية.
وإذا ما أُلقيت
نظرة سريعة على التحالفات المركّبة في المدن والبلدات الكبرى، والتي يمكن اعتبارها توطئة لما ستكون عليه التحالفات المقبلة في الاستحقاق النيابي، لاتضحت خفايا كثيرة، ومن بينها إصرار الكتل النيابية
الكبيرة ككتلة "الجمهورية القوية"، وكتلة "
لبنان القوي" وكتلتا "الثنائي الشيعي" على الاحتفاظ بقدرتها الشعبية ذات الدلالات المهمة من حيث التمثيل الأكثر قربًا إلى معايشة حقيقية لما يمرّ به اللبنانيون من تجارب قاسية.
ومن بين هذه الخفايا يمكن استنتاج الخلاصات التالية، التي تستحوذ على المشهد الانتخابي بمستوياته البلدي ولاحقًا النيابي:
أولا،
يحاول "الثنائي الشيعي" من خلال الانتخابات البلدية أن يثبت للأقربين قبل الأبعدين أنه لا يزال يمسك بخيوط اللعبة السياسية على رغم كل ما يتعرض له من حملات، وعلى رغم ما نزل به من خسائر بشرية ومادية نتيجة الحرب الأخيرة. فالهدف بالنسبة إلى كل من "
حزب الله" وحركة "أمل" يكمن في إبقاء القديم على قدمه، مع إصرارهما على ألا يُسمح لأي خرق بلدي حتى في القرى الصغيرة نسبيًا، باعتبار أن أي خرق بلدي يمكن أن يتحّول إلى خرق نيابي بعد سنة من الآن. وهذا ما لا يمكن التهاون به أيًّا تكن المعطيات الظرفية.
ثانيا، من الواضح أن حزب "
القوات اللبنانية" يضع كل ثقله في إيصال المرشحين المحسوبين عليه سياسيًا إلى المقاعد البلدية أو الاختيارية، وذلك من خلال تحالفات واسعة في المناطق الحسّاسة والدقيقة، والتي يمكن من خلالها ضمان الأرجحية في الانتخابات النيابية المقبلة.
ثالثا، يحاول "
التيار الوطني الحر" أن يستثمر ما تبّقى له من قواعد شعبية في المناطق التي يعتبرها "برتقالية" صافية مئة في المئة، وذلك قبل أن ينوص وهج ما تبّقى له من حيثية شعبية، من دون أن يعني ذلك أن دون الوصول إلى انتخابات أيار سنة 2026 معوقات كثيرة، ومن بينها رسم خارطة طريق جديدة لتحالفات جديدة وبديلة عن التحالفات القديمة، وبالأخص في المناطق، التي كان "
التيار" يعتمد فيها على تحالفه الانتخابي مع "حزب الله".
رابعًا، بالنسبة إلى تيار "
المستقبل" العائد إلى الساحة السياسية من بوابة الاستحقاق البلدي، ولو بخفر، يمكن التعويل عليه في انتخابات بيروت كتجربة واقعية لما ستكون عليه وضعيته في الاستحقاق النيابي عبر تحالفات جديدة – قديمة ستأخذ في الاعتبار المتغيّرات المهمة في التركيبة السياسية الناتجة عن إيصال القاضي نواف سلام إلى السراي الحكومي.
وفي المحصّلة شبه النهائية لمشهدية ما قبل الانتخابات البلدية، التي ستبدأ في
محافظة جبل لبنان في
الرابع من أيار المقبل، فإن التعويل السياسي على هذا الاستحقاق يمكن أن يقود إلى رسم معالم التركيبة الممكنة لمجلس العام 2026.